[الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات]
إذا تبين أن الإنسان معرض للصواب وللخطأ، فلا يجوز لنا مهما كانت منزلته أن نطرح جميع اجتهاداته، بل ننظر إلى أقواله؛ فما وافق الحق منها نلتزمه، ونعرض عن أخطائه، فعين الإنصاف أن توازن بين الإيجابيات والسلبيات، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:٧٥].
فالله عز وجل يذم اليهود من حيث العموم، لكن في الوقت ذاته يبين تبارك وتعالى أن بعضهم يلتزم بأداء الأمانة ولا يخونها، وهؤلاء قليلون فيهم، من أجل هذا يقول عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:٨].
بلقيس لما كانت كافرة وقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:٣٤]، في بعض وجوه التفسير أن قولها: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)، هو من عند الله عز وجل، وأنه أقر بلقيس على ما قالته وإن كانت كافرة، لكن لأن هذا حق، ولذلك يقول بعض الشعراء: لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص فالدر وهو أعز شيء يقتنى ما حط قيمته هوان الغائص فمن أجل ذلك ينبغي أن يتصف الإنسان بالإنصاف.
يقول الله عز وجل وهو يذكر صفات بعض أهل الكتاب مبيناً منهج العدل والإنصاف: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:٧٥] يعني: مال الأميين أو الأمميين أو الجويين -وهم كل من عادى اليهود- حلال، {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:٧٥].
وجاء في صحيح البخاري في حديث طويل فيه قصة رجل من بني إسرائيل استقرض من صاحب له ألف دينار إلى أجل مسمى، فلما جاء الأجل التمس مركباً ليركبه ليقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركباً، وكان قد قال له صاحب المال: أريد شهيداً، قال: كفى بالله شهيداً، قال: أريد كفيلاً، فقال: كفى بالله كفيلاً؛ فأقره على ذلك، وأخذ منه هذا القرض، فلما أراد الرجل أن يؤدي إليه المال، وحاول أن يصل إليه بالمركب في الموعد ما استطاع، فلما عجز أتى بخشبة، وجعل فيها تجويفاً ووضع فيها الألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم أصلح موضعها ولحمها، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فوضع الآخر الخشبة في البحر، ودعا الله أن تصل إلى الرجل، فإذا بالرجل صاحب المال خرج في الموعد ينتظر المركب لأجل أن يسدد له الدين، فوقف ينتظر المركب فما رأى مركباً، وما أتى الرجل في الموعد، فحينئذ وجد الخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله كحطب يحتطب به، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار مرة أخرى، فقال: والله! ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي جئت به، فقال: فإن الله قد أدى عنك، وبعث بالخشبة، فانصرف بالألف دينار راشداً، فهذا مثل قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:٧٥]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء بما هم فيه من خير حتى وإن كانوا أعداء.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ويعلمون -يعني: أهل السنة- أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابين، وإن كان يوجد في أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد في كثير من المنتسبين إلى الإسلام، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:٧٥]، فمن الإنصاف أن تصف هؤلاء حتى وإن كانوا أعداء بما هو فيهم حقيقة.
وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] فالله سبحانه وتعالى أثبت النفع في الخمر والميسر، وهو ما يحصل من الربح المادي نتيجة التجارة فيهما، ولكنه حرمهما لغلبة مفاسدهما على هذه المنافع.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: (يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن) فمع أنه وصفه بأنه خير، لكن خالطه دخن، فأدرجه في جملة الخير، (قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، فأثبت الخيرية لبعض القوم على الرغم من وجود الدخن بينهم؛ فالعبرة بكثرة المحاسن وغلبتها.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في شرب الخمر، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله! ما علمت أنه يحب الله ورسوله).
كلمة: (ما)، هنا موصولة بمعنى الذي، أي: لا تلعنوه؛ فإن الذي أعلمه منه أنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا الصحابي رضي الله تعالى عنه زلت قدمه وتكررت منه هذه المعصية، ولكن هذا لا يعني أنه فاسد بالكلية، بحيث تهمل الصفات الحميدة الأخرى التي توجب محبته وموالاته.
فلابد أن يعرف للمحسن إحسانه، وللمسيء إساءته إتماماً للعدل والإنصاف، فلا يجوز أن يغلب جانب النظر إلى المعصية على جانب النظر إلى الطاعات وبقية الحسنات والفضائل، فهذا هو الحد الفاصل بين أهل السنة والخوارج، فالخوارج يكفرونه، ويتبرءون من فعل المعصية، ويعدونه قد خرج من الملة تماماً، ويعادونه كما يعادون الكافر، بل ربما يكونون على أهل الإسلام أشد منهم على أهل الأوثان، كما جاء في صفتهم: أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.
وهذا من شدة انحرافهم عن هذا الأصل القويم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة رضي الله عنه في حق الشيطان الذي علمه آية الكرسي لتحفظه من الشيطان إذا أراد أن ينام: (أما إنه صدقك وهو كذوب)، فانظر إلى الإنصاف؛ مع أنه شيطان، لكنه كان صادقاً في هذه الجزئية، فوصفه بالصدق مع أن الأصل فيه أنه كذاب، فأثبت الصدق للشيطان الذي ديدنه الكذب، ولم يمنع ذلك من اتباع الخير الذي دل عليه، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ضمن فوائد هذا الحديث: ومنها: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وبأن الكذاب قد يصدق.
كذلك السلف الصالح أيضاً رسخوا وأصلوا هذا الأصل الأصيل، فمن ذلك قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله يعني: من كان الخير الذي فيه أكثر من الشر الذي فيه، فيعفى عن النقص؛ لأجل غلبة الخير فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إن من المروءة جبر نقص ذوي الهيئات)، وجاء في حديث صحيح: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) أي: الشخص الذي يعلم من غالب أحواله الاستقامة إذا زل مرة أو مرتين ما لم يكن حداً من حدود الله تغاضوا عنه، ولا تؤاخذوه به؛ لأن الغالب عليه الخير.
وقال ابن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره.
وقال عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: كان أحمد بن حنبل قد أقام عندنا بمكة على سفيان بن عيينة، فقال لي ذات يوم: هاهنا رجل من قريش له بيان ومعرفة، فقلت: فمن هو؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي، وكان أحمد قد جالسه بالعراق، فلم يزل بي حتى اجترني إليه -حتى يحضر عنده- وكان الشافعي قبالة ميزاب الكعبة، فجلسنا إليه، ودارت مسائل، فلما قمنا قال لي أحمد بن حنبل: كيف رأيت؟ -أي: كيف رأيت الإمام الشافعي رحمه الله؟ - فجعلت أتتبع ما كان أخطأ فيه.
أي: جعل يذكر الأخطاء التي أخطأ فيها الإمام الشافعي في أثناء هذه المناظرة، قال: وكان ذلك مني بالقرشية -يعني: كان ذلك حسداً مني للإمام الشافعي رحمه الله تعالى- فقال لي أحمد بن حنبل: فأنت لا ترضى أن يكون رجل من قريش يكون له هذه المعرفة وهذا البيان؟ تمر مائة مسألة يخطئ في خمس منها أو عشر هل من العقل أن تترك خمسة وتسعين مسألة من الصواب، وتتمسك بخمس؟ ألا يساوي الشافعي عندك إلا هذه الأخطاء الخمسة؟! اترك ما