[الوقت في القرآن الكريم]
نقف مع بعض النصوص التي تبين قيمة الزمن، من القرآن ومن السنة: يقول الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:١٢]، وقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:٣٣]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:١٢]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:٦٢] (خِلْفة) أي: يخلف أحدهما الآخر، فمن فاته عمل في أحدهما حاول أن يتداركه في الآخر، هذا هو المقصود من كلمة: (خلفة) أي: يخلف الليل النهار، ويخلف النهار الليل، بحيث من فاته عمل الليل حاول أن يتداركه ويعوضه في النهار، وهكذا.
أيضاً: معلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا أقسم بشيء من خلقه، فإنما يقسم سبحانه به ليلفت نظر الخلق إلى أهمية هذا الشيء، وينبههم على منفعته وآثاره، فأقسم الله سبحانه وتعالى بأزمان وبأوقات معينة؛ ليدل على شرف هذا الزمان؛ لأنه آية من آيات الله، ونعمة من نعم الله على الإنسان، قال سبحانه وتعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:١ - ٢]، فأقسم الله بالفجر وليال عشر، وهذه أزمنة وأوقات.
وقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:١ - ٢].
وقال عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:١ - ٢].
وأقسم سبحانه وتعالى بما هو أعم من ذلك، وهو العصر (الزمن والدهر)، فقال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:١ - ٣].
فالمقصود بالعصر هنا: الدهر أو الزمن؛ وذلك لشرفه وقيمته، فالله سبحانه وتعالى يقسم بالعصر؛ لأنه لا شيء أنفس من العمر، وفي تخصيص القَسَم بالعصر إشارة إلى أن الإنسان يضيف المكاره والموارد إليه، وبعض الناس حينما يسبون الدهر يقولون: يا خيبة الدهر! يا ويل الدهر! فالله سبحانه وتعالى يقسم به ليبين أن العيب فيكم، ويحل بكم العقاب بسبب أعمالكم أنتم، وليس للدهر شأن في ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر).
فالمقصود: أن الله أقسم بالدهر؛ ليبين شرفه ومكانته، وأنه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى وآياته، فمن ذم الدهر فلتفريطه في جنب الله، وليس لأن الدهر هو السبب في ذلك.
يقول الإمام الرازي في هذه الآية: إن الدهر مشتمل على الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، فلو ضيعت ألف سنة، ثم تبت في اللمحة الأخيرة من العمر لكنت في الجنة أبد الآباد! فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في هذه اللمحة، فكان الدهر والزمان من أعظم النعم.
جاء في الحديث الصحيح: أن مشركاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وشهد الشهادتين، ثم لم يلبث أن نودي للجهاد، فخرج في الغزوة فقتل فدخل الجنة، فهذا رجل امتد عمره في الشرك والكفر، فأتى تائباً وأسلم، وشهد الشهادتين، ولم يُصلّ حيث لم يأت عليه وقت صلاة؛ لأنه أسلم منذ لحظات، فبمجرد أن أسلم خرج للجهاد، فقتل في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً).
فهذا العصر وهذا الزمن بمضيه ينتقص العمر، فإن لم يكن في مقابله انتقاص العمر كسب وأعمال صالحة، صار ذلك النقصان هو عين الخسران!! ولذلك قال سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:٢]، فالأصل أن كل بني آدم خاسرون، واستثنى هؤلاء الطائفة المهدية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣].
وهناك آيات أخر تؤكد هذا المعنى، ومنها قول الله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} [فاطر:٣٧]، وذلك حينما يتمنى أهل النار الخروج كما قال الله عنهم: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:٣٧]، فيجيبهم الله بأنه امتن عليهم بنعمة العمر ونعمة الوقت، ولكنكم ضيعتموها: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:٣٧]، وقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:١٢]، لكنه يقين لا يفيد، ولات حين مندم.
وقال عز وجل: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ:٥٢]، كيف إذا أتاهم الموت يطلبون الإيمان، ويقولون: آمنا؟! فهم كحال الشخص الذي يتناول شيئاً من مكان بعيد، فهل يقع في يده وهو بعيد عنه؟! كذلك هُم بعيدون من التوبة، وبعيدون من الإيمان في مثل هذا الموقف، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤] ليس المقصود: ما يشتهون من الشهوات، والأطعمة، والأشربة، والأنكحة، ونحو هذه الأشياء!! لكن المقصود أنه في حالة احتضار الكفار حيل بينهم وبين ما يشتهون من التوبة، ومن الرجوع ليستدركوا ما فاتهم.
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:٥٤]، فالدنيا دار امتحان، والآخرة دار ظهور نتائج، فالإنسان في هذه الدار في حالة امتحان، وكل إنسان آتاه الله سبحانه العقل، وفطره على الإسلام، وقد أقام الله في السماوات والأرض آيات وبراهين واضحة على وحدانيته سبحانه وتعالى، وأرسل الله الرسل، وضمن للعباد ألا يعذبهم حتى يأتيهم الرسل، فجاء الرسل: {مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:١٦٥]، ومع ذلك غرتهم الحياة الدنيا، وفرحوا بما عندهم من العلم، فهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:٧]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريّ جوّاظ، صخّاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، وهذا حال أكثر الناس في هذا الزمن، قد اغتروا بما لديهم من قوة، ومن علم، ومن بيوت، ومن أموال، ونسوا هذه الحقيقة، ونسوا ما ينتظرهم من الحساب، وهؤلاء أنفسهم سوف يصطرخون إن لم يتوبوا ويقولون: (ربنا أخرجنا)، ويقولون: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:١٠٢]، فيجابون: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨].
ومن شرف الوقت أن السعداء -أهل الجنة- يقطفون ثمرة الوقت، ثم يقال لهم في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢٤]، وتأملوا كلمة: (الأيام) فهي الوقت والزمان الذي تعيشون أنتم فيه الآن.
أما الأشقياء فيقال لهم في النار: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:٧٥].
من أجل ذلك أمر الله المؤمنين بالتنافس في هذا المضمار، والمسابقة والمسارعة في الخيرات؛ لأن الإنسان يجري والموت يجري وراءه، ولابد أن يدركه كما في الحديث: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من أجله لأدركه رزقه كما يدركه الموت).
فأجلك يعدو خلفك، وسيلحقك في موعد محدد، لا يفرق بين جنين في بطن أمه، ولا يفرق بين صبي لم تكتب عليه خطيئة، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين مسلم وكافر، ولا بين صالح وطالح: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:١١].
فمن أجل ذلك، ومن أجل خطورة الوقت، كان التعبير دقيقاً في هذه الآيات التي نتلوها، قال الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:١٤٨]، انظر كلمة: الاستباق: (فاستبقوا الخيرات) أي: ابذلوا أقصى ما في وسعكم لتحصيل ما أمكنكم من الخيرات.
ويقول الله عز وجل في مدح الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠].
ويقول عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩]، وليس المقصود الجري، إنما المقصود: المسارعة إلى الأعمال الصالحة، أما في الأمور المضمونة كالرزق، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥]، وأما في أمور الآخرة فقال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:٩]، وقال سبحانه وتعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأ