[ذم التعالم]
ونصدَّر أيضاً الكلام في هذه القضية بالكلام في ذم التعالم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:١٤٤] أي: لا أحد أظلم، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأنعام:١٤٤]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، فالتعالم الكاذب هو عتبة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، وهذه الجريمة محرمة لذاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذّرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير حين قال: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن، ويقولون: من أقرأ منا، من أعلم منا، من أفقه منا، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أولئك منكم -أي: من هذه الأمة- وأولئك هم وقود النار)، وجاء في الحديث الآخر الذي في البخاري أن النبي عليه السلام قال في فتن آخر الزمان قال: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) فلما قال له حذيفة: صفهم لنا، جلهم لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وهذا هو الواقع الذي نلمسه الآن، فالذين يطعنون في الإسلام هم من جلدتنا، وممن يتكلم بألسنتنا ولغتنا.
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال: (اللهم! هل بلغت ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -وكان آوه، أي: كثير الدعاء- فقال: اللهم نعم! وحرضت وجاهدت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، فيتعلمونه ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل).
ويقول بعض الفضلاء من المتأخرين: وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين، فعلمت أنه المقصود في الحديث.
قلت: صدق، فهاهو العلم في زماننا قد استدبر، وهاهو البغاث بأرضنا قد استنسر: قد أعوز الماء الطهور وما بقي غير التيمم لو يطيب صعيدا وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله أنه قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك، أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، لكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وَلَبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السرّاق.
أي: أنه أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص.
وقال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرمه، وقال القاسم بن محمد: لئن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم.
وقال ابن حزم رحمه الله: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، فهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون.
وهذه الكلمة ينبغي أن تكتب بخط عريض في كل مكان؛ حتى لا تغيب عن الناس.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب.
وفي كتب الحنفية: أن أبا حنفية رحمه الله كان يرى الحجْر على المفتي المتلاعب، ويسمونه المفتي الماجن، فيمنعه الإمام من الإفتاء.
وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر أن يمنع هؤلاء من الإفتاء كما فعل بنو أمية، وقال: إذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعلم الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟! وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عادة، قال ابن القيم: ومَن أقرهم مِن ولاة الأمور فهو آثم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، فقال رحمه الله تعالى: يكون على الكذابين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتيا محتسب!! وقال بعض المصنفين: والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد ينبئان عن خلل في العقل.
وقال زفر بن الهذيل ما معناه: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يذل، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول بما لم يقل به أحد، قال: وأرى من الواجب الديني أن أوصيه -أي: الشخص الذي يرد عليه- أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه، وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاًً ورجالاً لقصعة وثريد والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة.
وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: ليس ما لا يُعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً.
وقال الشاطبي رحمه الله: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وأما الآن؛ فباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذه مشكلة عظيمة، ويعطون أنفسهم هذا الحق فيقولون: فتح باب الاجتهاد إلى آخره، فنقول: نعم إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن من الذي يجتهد؟ فلو كان هناك رجل أمي جاهل ليس عنده أي علم فوقف في السوق وجعل يقول: أنت تُعدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تجلد أربعين جلدة، وأنت كذا، فماذا يقول عنه الناس؟ لاشك أنهم سيعرضون عنه، فكلامه ليس له أي تأثير، بل هو لغو فارغ كلغو العصافير؛ لأن هذا الرجل ليس ممن يجتهد، ولا ممن يصدر الأحكام، فكلامه لا وزن له.