بيان النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية الاستئذان قولاً وفعلاً وتقريراً
قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧] أي: حتى تستأذنوا، والاستئذان يكون ثلاثاً، ويبدأ فيه بالسلام، وكل هذا جاء في السنة، وهو يوضح ويفسر الآية الكريمة، ويبين أنه لا يصح أن يكون المراد بقوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) أن يتنحنح أو نحو ذلك مما ذهب إليه البعض.
أما تعليم النبي عليه الصلاة والسلام فكما رواه ربعي بن خراش قال: (حدثنا رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم، أأدخل؟) وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: قولي لهذا يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادخل).
وعن كلدة بن الحنبلي رضي الله عنه: (أن صفوان بن أمية بعثه بلبن ولبأ وضغابيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والضغابيط: حشيش يؤكل-، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم، أأدخل؟ وذلك بعدما أسلم صفوان).
قلت: فانظر إلى قوله: (ارجع) كيف يعلمه الأدب، ولا يتسامح في مثل هذا، خاصة من المربي، ويكون ذلك برفق ولطف، لكن لا يفوت التعليم في هذه الأشياء، فإن بعض الناس يتحرج من مواجهة من فعل هذا التقصير، سواء كانوا تلامذة له أو نحو ذلك، وربما زين هذا المسلك قول بعض الصوفية: راحة القلب ألاّ ترى لأحد عليك حقاً، وهذا صحيح أن راحة البال في تعاملك مع الناس أن تؤدي ما عليك من الواجبات تجاههم ولا تنتظر حقاً منهم، فهذا ممكن إلا في حالة التربية والتأديب، فلا بأس للشيخ أو الأستاذ أو المربي أو الأب أو الأم أن يرى أن راحة البال ألاّ يكون لأحد عليه حق؛ من أجل أن يتحمل إساءة الناس، ويصفح عنهم، لكن هذا الأسلوب مع من كان مسئولاً عنهم لا ينفع؛ لأنه سيبقى السلوك السيئ بدون تقويم، فتعلم ابنك أن يحترمك، وتعلمه أن يحترم أستاذه، ويمكن للأب أن يعلم ابنه أن يتأدب معه، وأن يحترمه، وهذا فيه مصلحة الابن نفسه، ولا يقول: لا أرى لنفسي حقاً على أحد، ثم يصير الولد سيئ التربية، وهل ينفع أن نقول: عديم التربية؟ هل يصح ذلك؟ لا يصح؛ لأن كل واحد لا بد أن يكون متربياً، إلاّ أن هناك تربية حسنة، وهناك تربية سيئة، فالناس على قسمين: حسن التربية، وسيئ التربية، وليس هناك صنف ثالث بين القسمين.
فالأب يمكن أن يعلم ابنه مثلاً ويخاطبه بطريقة معينة فيها الأدب والأسلوب المهذب والكلام الذي فيه التوقير، ولا حرج على الإطلاق في ذلك؛ بل إن هذا فيه مصلحة الولد حتى يتربى.
أما السنة الفعلية فما ثبت أن أبا سعيد أو أبا مسعود رضي الله تعالى عنهما قال لـ عمر رضي الله عنه: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة حتى أتاه فسلم، فلم يؤذن له - أي: لم يؤذن للرسول عليه الصلاة والسلام-، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له، ثم سلم الثالثة فلم يؤذن له، فقال: قضينا ما علينا، ثم رجع صلى الله عليه وسلم فأذن له سعد) إلى آخر الحديث.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أنس أو غيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله)، فلا يجوز لأحد أن يحتجب عن الرسول عليه الصلاة والسلام بحال من الأحوال، وأيضاً لا يجوز للإنسان بحال أن يحتجب عن أبيه وأمه، فمن الممكن أن يحتجب عن غيرهما لعذر من الأعذار، أما الوالدان فلا يجوز أن تحتجب عنهما أو أحدهما.
ففي الحديث السابق: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم - أي: أنّه رد في نفسه بحيث لا يسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام-، حتى سلم ثلاثاً، ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي -يعني: أفديك بأبي وأمي- ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت، فقرب إليه زبيباً، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون).
وهذا الحديث يلحن فيه كثير من الناس، ويأتون فيه بمصائب بسبب التصحيف، فيقول بعضهم: أكل طعامُكم الأبرار، يعني: أن الطعام هو الذي أكل الأبرارَ، فيجعلون الطعام فاعلاً، والأبرار مفعولاً.
(وصلت عليكم الملائكة) بالصاد، وهم يقولون: وسلط من التسليط.
وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: (زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: دعه يكثر علينا من السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد رداً خفياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد، فقال: يا رسول الله! إني كنت أسمع سلامك، وأرد عليك رداً خفياً؛ لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور).
ومن السنة التقريرية ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقلت: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل عمر؟).