[توجيه النصوص التي تفيد التعارض مع الإحسان إلى أهل الذمة]
هذه مجموعة أخرى من النصوص قد نفهم منها خلاف ذلك، نمر عليها حتى ننهي هذه الجزئية، منها: قوله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] يفهم منه معارضة الكلام الذي قدمناه آنفاً، فقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} جاء في تفسيرها أقوال كثيرة: منها: أن الذمي يدفع الجزية وهو قائم والآخذ يكون جالساً، لكن المقصود من هذه المظاهر العامة التي شرعها الإسلام بالنسبة لوضع هؤلاء الذميين -المقصود منها تبغيض الكفر إلى الذمي، وإشعاره أن هذا الكفر أداه إلى هذا الذل والصغار، فهذا نوع من تنفيره من الكفر بحيث يرغب في عزة المسلمين وأخلاق المسلمين وعقيدة المسلمين، فيكون ذلك من وجهين: ينفر من الكفر، ويرغب في الإسلام، هذا هو الشاهد وهذا هو المقصود.
كذلك لا ينبغي أن يكونوا في موضع من التعظيم والتبجيل والتقدير والاحترام كمظهر عام في المجتمع الإسلامي؛ لأن العزة لا تكون إلا لله ولرسوله وللمؤمنين.
تفسير آخر للآية قال بعضهم: أن يأتي بالجزية ماشياً لا راكباً، ويطال وقوفه عند إتيانه بها، ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ إليه بالأنف ثم تجر يده ويمتهن.
وبعض أهل العلم أنكر مثل هذه التفسيرات، يقول الدكتور الطريقي: نحن لو تفكرنا ملياً لأدركنا أن ذلك كله مما لا دليل عليه، كما يقول ابن القيم، حكى ابن القيم هذه التفسيرات في معنى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:٢٩] وقال: إن هذا كله مما لا دليل عليه من الكتاب والسنة، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك.
يقول: والصواب في الآية أن معنى قوله: (وهم صاغرون): أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم، ورجوعهم إلى حكم الإسلام، هذا هو معنى الصغار؛ لأن الدار إذا حكمت بالإسلام صارت دار إسلام، حتى ولو كان كل أهلها مثلاً نصارى أو يهوداً، ما داموا يؤدون الجزية فهم صاروا في حالة خضوع لحكم الله وصار الحكم لله في هذه البلاد.
فالصواب في الآية: أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الذمة عليهم بإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار.
ونحن نعتبر أنفسنا الآن تحت ظل القوانين الوضعية -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في حالة إذعان وذل لهذه القوانين الكافرة.
وقوله: (عن يد) أي: عن قدرة، بحيث لا يكون عاجزاً، بل إن كان عاجزاً فإنه يعطى من بيت المال، كما حكم بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلا شك أن خضوع الكفار لدولة الإسلام ودفعهم الجزية للمسلمين هو في ذاته صغار لهم.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: إذا أخذ الإمام منهم الجزية أخذها بإدلال -يعني بإحسان- ولا يضرب منهم أحداً، ولا يناله بقول قبيح.
فهذه كلمة الإمام الشافعي في هذه القضية.
يقول الدكتور الطريقي: فلا داعي إذاً لتلك الأمور التي ظن بعضهم أن الصغار لا يتحقق إلا بها، مثل: الأخذ بتلابيبهم، وذمهم، وسبهم، أو كونهم يدفعون الجزية قياماً والآخذ جالساً ونحو ذلك.
ومن الأدلة التي قد يفهم منها التعارض مع ما قدمنا: حديث رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) في هذا الحديث نهي عن بدء النصارى واليهود بالسلام، وأمر بأن يضطر الواحد منهم إلى أضيق الطريق عند اللقاء.
وهنا مسألتان: