معنى الفطرة لغة واصطلاحاً
الفطرة في اللغة: مأخوذة من فطر الشيء يفطره، إذا شقه، فشقّ الشيء معناه فطره، وتفطر يعني: تشقق، والفطر هو الشق، وجمعه فطور، ومنه فطر ناب البعير، إذا نبت.
وقال عز وجل: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:١]، أي: انشقت، وفي حديث عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) يعني: تتشقق.
والفَطر هو الابتداء والاختراع، قال الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:١]، يعني: خالقهما ومبتدئهما.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرت البئر، فهي بئري، يعني: أنا بدأتها.
ففهم معنى الفطر من قول الأعرابي، فهذا من حيث اللغة.
أما من حيث الاصطلاح، فالفطرة هي دين الإسلام.
كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠].
إن الحقيقة التي نستنبطها من القرآن في هذه القضية: هي أن كل مولود يولد على فطرة التوحيد، فقد دلتنا قصة آدم عليه السلام على أنه كان على عقيدة التوحيد، ودل القرآن الكريم والسنة النبوية على أن هذا لم يكن خاصاً بالإنسان الأول وهو آدم عليه السلام، وإنما هو عام في كل مولود.
يقول سبحانه وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:٣٠].
قال ابن كثير: أي: سدد وجهك واستمر واثبت على هذا الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية السمحة، ملة إبراهيم عليه السلام التي هداك الله لها، وكملها لك غاية الإكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فقد فطر الله تعالى العباد على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره.
وقوله: (حَنِيفًا) يعني: مائلاً عن الأديان إلى الإسلام.
وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: ((لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) فقال بعض العلماء: إنها خبر بمعنى الطلب، كما تقول في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلفظه لفظ الخبر، لكن المقصود به الأمر أو النهي، أي: لا تضر غيرك سواء ابتداء أو على سبيل المقابلة.
وكذلك مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:١٩٧]، فلفظه لفظ الخبر، والمراد به الطلب والتكليف، أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، بدليل أن الناس قد يرتكبون مثل هذا، فدل على أنه أمر شرعي إرادي، وليس أمراً كونياً قدرياً.
إذاً: فقوله: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) خبر بمعنى الطلب، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تحرفوا الناس عن فطرتهم.
القول الثاني: أنها خبر على بابه، وليس المقصود بها الأمر أو التكليف، لكن المعنى أن الله سبحانه وتعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، فلا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بينهم في ذلك، فكل الناس يستوون في أنهم يفطرون على الفطرة المستقيمة السوية.
لقد فسر البخاري قوله تعالى: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) قال: لدين الله، واستشهد أن قوله تعالى: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:١٣٧] يعني دين الأولين، ثم قال: الفطرة الإسلام.
وقال سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:٢١٣]، وزادها إيضاحاً في قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:١٩].
فهذه الآيات الكريمات تدل على أن الدين الحنيف هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وأن ذلك هو الدين القيم الذي كان الناس عليه قبل أن يختلفوا.
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: أن الناس بقوا عشرة قرون على الدين الحق، وذلك قبل حدوث التغيير وظهور الشرك، فبقي الإسلام والتوحيد ولم يطرأ شرك إلا بعد ألف سنة من وجود البشرية في هذه الأرض، ثم طرأ الشرك بعد ذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠] رواه البخاري ومسلم.
يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (ما من مولود) يعني: ليس هناك مولود من بني آدم.
قوله: (إلا ويولد على الفطرة)، أي: على الدين الإسلامي، وذلك كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:٣٠]، وهذه الفطرة كما قال العلماء: هي الإيمان المعهود الذي أخذ الله عليه الميثاق من بني آدم، وذلك لما ضرب صلب آدم واستخرج منه كل ذريته عليه السلام، فأخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر، وقال لهم:: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:١٧٢]، فكل إنسان أخذ عليه هذا الميثاق، وقد يقول قائل: نحن الآن لا نذكر هذا الميثاق، فنقول: يكفي أن يخبرنا الوحي بوقوعه، فنؤمن بوقوعه كسائر أخبار الغيب التي أخبرنا الله عنها، فنصدقها وإن نسينا هذا الميثاق، ثم إنك تشعر في نفسك بهذا الميثاق وهذه الفطرة، فأنت تشعر أن قضية وجود الله سبحانه وتعالى مثلاً لا تحتاج إلى دليل بالنسبة للمؤمن السليم الفطرة، فلا تجد عنده جدلاً في قضية وجود الله، وإنما تجد الجدل في ذلك عند من تلوث بالشبهات والوساوس الشيطانية، ممن استمع لأهل الإلحاد والانحراف وأشباههم.
فتجد أنّ أقوى دليل عند الإنسان على وجود الله هو الفطرة، وهذه مسألة غير قابلة للنقاش عنده؛ لأنّ هذه الفطرة مغروسة في الأعماق، فهذا أقوى دليل على أن الله خلقنا بفطرة، فنحس بالانجذاب إلى التوحيد، والإقرار بألوهيته تبارك وتعالى.
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أي: اثبت على إيمانك القديم الواقع منك في عالم الذر.
وهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول بالعقائد الصحيحة.
وتفسير الفطرة في الحديث وفي الآيات بالإسلام تدل عليه أشياء كثيرة وتؤيده وتثبت صحته، فالروايات المختلفة الألفاظ المتفقة المعاني والتي يفسر بعضها بعضاً تؤيد هذا، مثل رواية: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) كما في الرواية التي ذكرناها، وهناك رواية أخرى: (ما من مولود يولد إلا وهو على الملة)، أي: الملة الإسلامية الحنيفية، كما في (صحيح مسلم).
أيضاً: مما يؤيد تفسير الفطرة بالإسلام قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بعدما ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) إلى آخر الحديث، ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
فقد فسر أبو هريرة الحديث بالآية.
وحكى أبو عمر بن عبد البر إجماع العلماء على أن المراد بالفطرة في هذه الآية هو الإسلام.
وأيضاً: فتوى أبي هريرة رضي الله عنه، فقد سئل رضي الله عنه عن رجل عليه كفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة، أيجزئ عنه الصبي أن يعتقه وهو رضيع؟ فقال: نعم؛ لأنه ولد على الفطرة.
فاستدل أبو هريرة بالحديث السابق على أن هذه رقبة مؤمنة.
وقال ابن شهاب الزهري: يصلى على كل مولود متوفى وإن كان لغية.
يعني: من ولد الزنا؛ من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام فهو لا ذنب له، وإن كان أتى عن طريق الخطيئة فإنه يولد مبرأ من كل وزر.
وأفتى الزهري رجلاً عليه رقبة مؤمنة أن يعتق رضيعاً؛ لأنه ولد على الفطرة.
وقال الإمام أحمد: من مات أبواه وهما كافران، حكم بإسلامه، واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة).
وأيضاً: قوله: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فقد ذكر الانحرافات التي تطرأ على الفطرة، وذكر أنواعها، وذكر تغيير الفطرة إلى ملل الكفر، ولم يذكر الإسلام، فلم يقل: أو يمسلمانه، ولكن قال: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، فعُلم أنه يتحول عن الإسلام إلى غيره بفعل الأبوين أو غيرهما.
وأيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهذه إشارة إلى مثال أنتم ترونه في حياتكم وواقعكم، فالبهيمة خُلقت سليمة، ثم جُدعت بعد ذلك، أي: أنها تقطع أذنها، فهل تولد وهي مقطوعة الأذن؟
الجواب
الأصل أن البهائم تولد سليمة، وقطع الأذن شيء طارئ.
فالتغيير هو الانحراف والنقل عن الأصل، فلذلك قال بعده: (هل تحسون فيها من جدعاء؟) إشارة إلى أن البهيمة خلقت سليمة، ثم جدعت بعد ذلك، فكذلك الولد يولد سليماً من الكفر، ثم يطرأ عليه الكفر بعد ذلك، فالعيب الذي طرأ على البدن يقابله العيب الذي طرأ على الدين وهو الكفر.
فهذه الفطرة هي فطرة الإسلام، والسلامة من الاعتقادات الباطلة.