[سبب إرسال نوح إلى قومه وجداله لهم]
إنّ أول انحراف وجد في تاريخ البشرية عن التوحيد هو ما حصل من قوم نوح، وذلك بسبب الغلو في تعظيم الصالحين، فأرسل الله إليهم أول رسله نوحاً عليه السلام مصداقاً لوعده الذي أعطاه لأبي البشر آدم، فالله سبحانه وتعالى وعد آدم عندما أنزله إلى الأرض فقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨].
فالدليل على أن نوحاً عليه السلام هو أول رسول بعث إلى البشر هو حديث الشفاعة، وهو حديث متفق عليه، وفيه: أن الناس يأتون أولاً آدم عليه السلام، ثم يأتون نوحاً، فكان مما قالوا له: (يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، فهذا هو الدليل على أولية نوح عليه السلام بالنسبة للرسل، وأما آدم فهو أول نبي.
والنصوص التي بين أيدينا من كتاب ربنا عز وجل تدل دلالة واضحة على أن نوحاً قد دعا إلى التوحيد الخالص، فقد قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:٥٩]، وقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:٢١]، وقال أيضاً كما حكاه الله عنه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:٢٣]، والذين استجابوا لدعوته للتوحيد هم ضعفاء الناس.
فنحن إذا أعملنا الفرية الكاذبة المسماه: بنظرية التطور المزعومة التي يدعيها الملاحدة، فإن التطور على زعمهم يحصل في أحقاب سحيقة من التاريخ، فالألف سنة ونحوها تعتبر فترة وجيزة جداً لا يكفي أن يحصل فيها تطور بزعمهم، فيترتب على ذلك شموله لبعثة نوح، فإذا كان آدم عليه السلام متخلفاً وكان على هيئة القرد، ويمشي منحنياً، وجسمه مليء بالشعر كالغوريلا أو الشمبانزي، فكذلك نوح عليه السلام كان في عرفهم من أقسام الإنسان الأول الذي يزعمون؛ فبالتالي سنكفر بآيات الله سبحانه وتعالى جميعها؛ كي نصدق هؤلاء الملاحدة.
فهذا نوح أيضاً يدعو إلى التوحيد وإلى الإسلام، فاستجاب لدعوته ضعفاء الناس، وتنكر لها السادة والزعماء الذين يظنون في أنفسهم العقل والفطنة والذكاء، واستكبروا عن متابعة الحق، قال الله حاكياً عنهم: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:٦٠]، والملأ: هم السادة والكبراء، وقالوا له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:٢٧]، أي: ما نرى اتبعك إلا الضعفاء والفقراء والمساكين (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني: أنّ هؤلاء استجابوا لك من أول سماعهم لكلامك، وأما نحن فأهل الفطنة وأهل التفلسف والذكاء، فلا بد أن نتمعن في مثل هذا الكلام الذي تقول: إنه وحي من الله، ولسنا مثل هؤلاء السذج الذين قبلوا ما دعوتهم إليه لأول الأمر، ولم يتعمقوا فيه، وإنما اتبعوك بدون تأمل عميق ولا تفكير ونظر.
وهذا الذي رموهم به منقبة في حقهم؛ لأن الحق إذا ظهر فإنه لا يحتاج إلى نظر، بل يجب اتباعه، فهذا هو السر في أنهم اتبعوه فوراً، فهذا شأن الإنسان سليم الفطرة أنه إذا ظهر له الحق فإنه ينقاد إليه فوراً ولا يتردد، ولا يحتاج إلى تأمل ولا إلى تفكير.
وقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود:٢٧]، أي: أنهم تعجبوا كيف يبعث الله بشراً رسولاً.
وقال عز وجل: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:٢٤].
ثم اشترطوا كي يتابعوه أن يطرد من حوله من الضعفاء والفقراء والمساكين، فرد عليهم نوح عليه السلام بقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:٢٩].
فتطاول الزمان، وكثرت المجادلة بين نوح عليه السلام وبين قومه كما قال عز وجل: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:١٤].
فمكث نوح عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل تسعمائة وخمسين سنة، فلما أيس منهم ورأى أنّه لا يخرج من أصلابهم إلا كافر مثلهم دعا عليهم، قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧]، فأهلكهم الله عز وجل بالطوفان: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:٣٧]، وأنجى الله نوحاً والمؤمنين برحمة منه، وخلت الأرض من الظالمين، ولم يبق فيها إلا الموحدون، فلما انحرفوا عن التوحيد أرسل الله إليهم رسولاً، يقول تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [المؤمنون:٣١ - ٣٢]، فدعاهم أيضاً إلى التوحيد: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٣٢].
وهكذا استمرت رحمة الله سبحانه وتعالى وعنايته ببني آدم، فكلما ضلوا وزاغوا أنزل إليهم ما يضيء لهم الظلمات، قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:٤٤].
فهذه هي القصة الحقيقية للبشرية: صراع طويل بين الحق والباطل، بين الرسل الذين يعرضون الحق والهدى، وبين الضالين عن التوحيد المتمسكين بما أَلْفَوا عليه الآباء والأجداد بأهوائهم ومعتقداتهم الباطلة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:٩ - ١٠].