للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مصطلح العلمانية بين الحقيقة والزيف]

وهنا مثال من أخطر الأمثلة في الحقيقة، وله أثر سيء جداً في واقعنا المعاصر، ألا وهو كلمة (العلمانية) أو (العالمانية) على الأصح، وهذا المصطلح الخطير حقيقته -كما نعلم- فصل الدين عن الحياة، فاستعمل النصارى هذا المصطلح، ومنهم فيكولر حيث ترجم مصطلح العالمانية إلى علمانية، لكي يلبس على الناس هذا الأمر، فأصبح عامة الناس إذا ذكرت العلمانية يفهمون أن العلمانية المقصود بها احترام العلم واتباع المنهج العلمي، في حين أن الكلمة لا علاقة لها على الإطلاق بالعلم، بل هي أقرب ما تكون إلى الجهل، ولذلك نتحرى أن لا ننطقها بهذا الوصف (العلمانية) حتى لا تلتبس على الناس، بل ننطقها (العالمانية) وهي لا تنسب إلى العلم على الإطلاق، لكن تنسب إلى العالم.

ومعناها: لا علاقة لنا بالدين، وإنما الإيمان بهذا العالم المادي الموجود أمامنا.

أي: فصل الدين تماماً عن القيم والأخلاق ونظم الحياة.

فهذا معنى الكلمة.

إذاً: أدق وأصح تعبير أن نقول: (العالمانية) نسبة إلى العالم، نسبة إلى هذه الدنيا بغض النظر عن الآخرة، واعتبار قضية الإيمان واليقين والآخرة والغيبيات والدين كلها قضايا شخصية لا ينبغي أن تتدخل في حياة الناس أو تنظم شئونهم.

فهذا نموذج من المصطلحات الخطيرة التي روجت، واستغل فيها جهل الناس لتمرير هذه المفاهيم الخبيثة، فقضية (العالمانية) وليست (العلمانية) هي -في الحقيقة- تقوم على الجهل؛ لأن الأشياء التي ينبغي أن تعلم في هذا الوجود ليست هي المعلومات المحسوسة فحسب، وإنما هناك معلومات أعظم وأخطر ينبغي أن نعلمها ونوقن بها، ومنها حقائق الغيب.

ففي الحقيقة حتى لو قلنا: إن العلمانية المقصود بها العلم التجريبي فهذا إنما مجاله -فقط- هو ما يخضع للحواس، فالمنهج العلمي -كما يقولون- هو التجربة والملاحظة والاستنتاج، فلابد في العلم التجريبي من أن يكون خاضعاً للحواس، يرى أو يشم أو يحس إلى غير ذلك.

إذاً: العلمانية في الحقيقة تحجب البشر من الاطلاع على القسم الأكبر والأخطر والأهم من المعلومات التي ينبغي أن يؤمنوا بها، وهو الإيمان بالغيب عن طريق الوحي الذي يعلمنا ويعرفنا بغيبيات موجودة لا ننكرها، فالعلمانية في الحقيقة دعوة جهل وليست دعوة علم.

إن العلمانية نشأت -كما نعلم- بسبب صراع الكنيسة مع العلم التجريبي؛ لأنهم كانوا كلما اكتشفوا شيئاً جديداً من الاكتشافات العلمية ثارت الكنيسة وطاردت العلماء وأحرقتهم بالنار وهم أحياء، وحصل صدام شديد جداً، لقد كانت الكنيسة دائماً تتسلط بعقيدتها الشركية التي قدمتها لهم: التثليث، والغفران، والعمد.

وهذا مصادم للفطرة، فأدى هذا التنفير والصدام إلى التمرد على هذا الدين، ولذلك فمن التلبيس -أيضاً- أن ينسبوا التقدم المادي في الغرب إلى دين النصارى، كلا، فهم ما تقدموا علماً إلا حين تحرروا من قيود دين كنيستهم المحرف، أما عندنا فمن الظلم أن تطبق هذه العالمانية على دين لم يعرف أبداً على الإطلاق صراعاً بين العلم وبين الدين؛ لأن هذا الدين أنزله الله، وهو الذي خلق الحقائق العلمية عز وجل، فلذلك يأتي نوراً على نور، ويتفق هذان النوران، ولا يمكن أبداً أن يحصل تناقض بين حقيقة علمية ثابتة قطعاً -ولا نقول: نظرية؛ لأن النظرية تتغير- وبين آية أو حديث، لا يمكن أن يحصل تناقض أبداً.

يقول شيخ الإسلام: إن الرسل تخبر بمحارات العقول ولا تخبر بمحالات العقول.

أي: تخبر بأشياء يحار فيها العقل بحيث يقصر عن فهمها وإدراكها على وجه التفصيل، ولا تخبر بمحالات العقول، أي: لا تخبر بشيء مستحيل.

والمستحيل هو اجتماع النقيضين، وهو لا يمكن أن يحصل، لكن يخبرون بغيبيات لا تطيقها العقول، فينبغي تفويض علمها وتفاصيل علمها إلى الله سبحانه وتعالى.

فالمهم أن كلمة (العلمانية) أنموذج من الاصطلاحات الخبيثة التي راجت على المسلمين، حتى إن بعض الشيوخ لم يحسن دراسة هذا المصطلح ونشأته وخلفياته، فلذلك صرح ببعض التصريحات وقال: إن العلمانية لا تتناقض مع الإسلام.

فهو يقصد أن العلمانية بمعنى احترام العلم، مع أن كلمة (العلمانية) لا علاقة لها -كما ذكرنا- بالعلم على الإطلاق من حيث الاشتقاق، ولا من حيث المعنى والمضمون.