[حكم اتخاذ القبور مساجد]
السؤال
بعض الناس -خاصة الصوفية- يستدلون بآية في سورة الكهف على جواز اتخاذ قبور الصالحين مساجد، فيقولون: إذا كان من المقرر شرعاً تحريم بناء المساجد على القبور فهناك أدلة على جواز ذلك، ومن هذه الأدلة قوله تبارك وتعالى في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١]، ووجه دلالة الآية على ذلك أن الذين قالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) كانوا نصارى -حسب ما هو مذكور في كتب التفسير-، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله سبحانه وتعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها، كما في هذه الآية الكريمة.
فما صحة هذا الاستدلال؟!
الجواب
يقول فضيلة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: الجواب على هذه الشبهة من وجهين: أولاً: إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا، وهم بنوا هذا الاستدلال على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون هذا أمراً غير متفق عليه، والقول الراجح في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة، من هذه الأدلة قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:٤٨]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي) وقال في آخر هذه الخمس: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) فمعناه: إن شريعتي غير شرائع الأنبياء قبلي.
فإذاً: الأنبياء السابقين كموسى وعيسى ونوح وغيرهم كان كل نبي منهم أو رسول يأتي بشريعة لقومه خاصة، فكونها لقومه خاصة معنا أنها لا تلزم غيرهم، وحينئذٍ لا تلزمنا نحن المسلمين، وإنما الذي يلزمنا هو بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته، فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية، أي: لو وافقنا ابتداءً على أن الآية تفيد أن في شريعة النصارى أنهم يبنون المساجد على قبور الصالحين فإذا ثبت أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا فلا يجوز لهؤلاء الناس أن يستدلوا بالآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن هذه القاعدة غير صحيحة، بل الصحيح أن لنا شريعة خاصة ولهم شريعة خاصة.
إذاً: لا يلزمنا المخالف بالأخذ بما فهمه من الآية من جواز بناء المساجد على القبور.
أما الوجه الثاني الذي يرد به على استدلالهم بآية سورة الكهف فنقول: هبْ أن الصواب قول من قال: شريعة من قبلنا شريعة لنا.
فإذا فرضنا هذا جدلاً فإن العلماء الذين يقولون: إن شرع من قبلنا شرع لنا يشترطون أن لا يخالف شرعنا، فإن خالفه فالذي يقدم شرعنا؛ لأن شرعنا أتى لينسخ هذه الشرائع.
وما ورد في هذه الآية مشروط بإذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا.
وهناك وجه ثالث في الرد، وهو أنه لا يلزم أن تفيد الآية أن بناء المساجد على القبور كان شرعاً عندهم؛ لأن غاية ما فيها أنه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١]، وليس فيها تصريح بأن الذين قالوا ذلك كانوا مؤمنين، وليس هناك ما يدل على أنهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك.
والحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح حديث: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يقول: وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١]، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المتبعين لما أنزل الله على رسله من الهدى.
وقال الشيخ علي بن عروة: حكى ابن جرير في قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ) قولين: الأول: أن القائلين هم المسلمون منهم.
والثاني: أنهم أهل الشرك منهم، فالله أعلم.
يقول: والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما صنعوا).
إذاً: لم يقتصر على عدم كونه في شريعتهم، بل لعنهم الله من أجل بناء المساجد على القبور.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر بأن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شيء من المواعظ والأخبار وغيرها.
يقول الألوسي: واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء، واتخاذ المساجد عليها، وجواز الصلاة عندها، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي، وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد.
ثم أتى بالأحاديث الثابتة في تحريم بناء المساجد على القبور، وأتبعها بكلام الحافظ الهيتمي في بيان أن ذلك من الكبائر.
ثم قال: وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك أفتوا أنها تهدم، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام أخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى قص علينا بلا إنكار.
أي: إن قالوا: إن ربنا حكى كلام هذه الفئة: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:٢١] ولم ينكر عليهم نقول: نعم لم ينكر سياق القرآن صراحة عليهم، ولكن إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ولعنهم على هذا الفعل واضح، وإنكار الرسول كإنكار الله، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:٨٠].
فيقال لهم: هل تنكرون السنة؟ فإن كانوا ينكروا السنة فإنهم فرقة ضالة تنبأ بها النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كانوا يؤمنون بالسنة فقد ثبت في السنة إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الفعل، وأنه لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، فالآية ليست خارجة مخرج المدح لهؤلاء الناس، وليس فيها -أيضاً- ما يحضنا على التأسي بهم.
ومتى يمكن القول بأن عدم إنكار الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم يعني إباحة هذا الفعل؟ نقول: ذلك إذا كان في وسطهم شخص معصوم، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً -أي: نبياً مرسلاً- فلا يدل فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ما كانوا بصدده؛ لأنه ما كان فيهم رسول، لكن هؤلاء الناس لم يأت ما يدل على الوثوق بفعلهم.
وتأول بعض العلماء اتخاذهم للمسجد على القبور بأنه ليس المعنى الذي نفهمه الآن من بناء المساجد على القبور في مكان واحد، قال: وإنما هو اتخاذ مسجد قريب من كهفهم، وليس المقصود اتخاذ المساجد على القبور بالصورة التي نعرفها في هذا الزمان.
وأيضاً فإن الإنسان الذي يستدل بهذه الآية على جواز بناء المساجد على القبور مَثَله كمثل الإنسان الذي يستدل بقوله تعالى في شأن سليمان عليه السلام: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:١٣] على جواز صناعة التماثيل والأصنام، فأما في شرعنا فهذه الأشياء محرمة قطعاً، وكذلك بناء المساجد على القبور.