إذا تأملنا قصة الخنساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما ذهب به الدهر من حديث جزعها وتصدع قلبها واضطراب حشاها على أخيها صخر لوجدنا عجباً، ومعلومة مراثيها لأخيها صخر، لكن عندما صارت مؤمنة استحال كل ذلك الجزع والفزع من قضاء الله إلى صبر صاغه الإيمان وجمله التقى، فلم تأس على فائت من متاع الحياة الدنيا، فهاهم أبناؤها وهم أشطار كبدها ونياط قلبها خرجوا إلى وقعة القادسية، وكانوا أربعة أبناء، فكان مما أوصتهم به قولها:(يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنت حسبكم وما غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وجللت ناراً على أرواقها فيمموا وطيسها - الوطيس هو المعركة أو الضرب فيها- وجالدوا رئيسها -أي: أصلها- عند احتدام خميسه تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة).
فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا إليها وتواقعوا عليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً في إثر واحد، ولما وافتها النعاة بخبر أبنائها الأربعة لم تزد على أن قالت:(الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
فانظر كيف غير الإسلام والإيمان سلوكها، من هذه المراثي التي ملأت بها الدنيا لأخيها صخر في الجاهلية إلى هذه الكلمة العظيمة التي قالتها في الإسلام.