للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أوجه المقارنة بين السيادة في المنهج الغربي والسيادة في المنهج الإسلامي]

ثم يعقد مقارنة بين السيادة في المنهج الغربي، والسيادة في الشرع الإسلامي، يقول: الفرق الأول: مصدر السيادة في الفقه الإسلامي هو الله عز وجل الذي يقضي فلا راد لقضائه، ويحكم فلا معقب لحكمه قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣] الدين ما أوجبه، والشرع ما شرعه، والحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، كما تفرد بالخلق فلم يشاركه فيه أحد تفرد بالأمر فلا يشرك في حكمه أحداً.

أما السيادة في النظريات الغربية فمردها إلى الإرادة العامة للأمة سواء باعتبارها شخصية معنوية، أو باعتبارها مكونة من عدد من الأفراد، وهذه الإرادة المطلقة لا تلتزم بقانون؛ لأن التعبير عنها هو القانون، ولا تقيدها جهة؛ لأنها أعلى من كل جهة، ولم تكتسب سلطانها من أحد؛ لأنه لا يماثلها ولا يساميها أحد، وبالجملة فإن الصفات التي يعتقدها المؤمنون في الله، يخلعها هؤلاء على هذه الإرادة المطلقة.

يقول السنهوري: روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا، ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن، وسنة الرسول المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة.

يعني: حتى موضوع نظرية السيادة في المفهوم الغربي فهي ناشئة عن صراع داخلي هناك عندهم في الغرب، صراع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، هل نحن المسلمين عرفنا هذا الصراع؟ ما عرفنا هذا الصراع؛ لأن الصورة قاتمة جداً، لو درستم تاريخ القرون الوسطى المظلمة -كما يسمونها- فإن الفرق شاسع، فالحاصل أنه تعميم على بلاد المسلمين بما لا ذنب لهم فيه، فأمتنا لم تعرف مثل هذا الصراع، ولا هذا التجزؤ كما شرحنا ذلك في محاضرة بعنوان: (العلمانية طاغوت العصر) حيث تكلمنا عن تاريخ أوروبا في تلك الحقبة بنوع من التوضيح والتفصيل.

إذاً: الوجه الأول من أوجه المقارنة بين نظرية السيادة في الشرع الإسلامي وبينها في الغرب مصدر السيادة، فمصدر السيادة هنا في الشرع الإسلامي هو الله سبحانه وتعالى كما بينا.

الوجه الثاني هو من حيث الثبات والتغير، فالقواعد التي تقررها السيادة الغربية قابلة للنسخ والتبديل في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء، حتى أنكم تلاحظون في بعض البلاد الدستور الذي هو يعتبر أقوى مرجعية في أي شعب فإنه يتغير، وها نحن رأينا أمريكا ماذا عملت في العراق؟ بمنتهى البساطة لأن ضابطها في ذلك أهواء البشر والضغوط التي تحصل على الأمم أحياناً، فهو فحوى كلامهم أن السيادة هذه أو السلطة هذه معصومة؛ لأنها مصدر السلطات، ومع ذلك يقبل حكمها التغيير والتبديل والنسخ في كل وقت؛ لأن من يملك الإنشاء يملك الإلغاء.

ولما كانت هذه القواعد تعبيراً عما سموه بالإرادة العامة الحرة فإن هذه الإرادة الحرة لها مطلق الصلاحية في نسخها وتبديلها متى تشاء، فقد تحل الشيء اليوم وتحرمه غداً أو العكس، ولا بأس عليها في ذلك ولا تثريب، ولكن القواعد التي تقررها السيادة الشرعية في الإسلام تتسم بالثبات والخلود، وقد انقطع الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهي ثابتة باقية ما دامت السماوات والأرض، ولا مبدل لكلمات الله، فما أحله الله ورسوله فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة، ولا تملك الأمة الإسلامية ولو اجتمعت كلها في صعيد واحد أن تحل شيئاً مما حرم الله، أو أن تحرم شيئاً مما أحل الله.

يقول الدكتور الطماوي: إن القواعد والأحكام المستمدة من القرآن والسنة باعتبارها تعبيراً عن إرادة الله سبحانه وتعالى -بطريق مباشر وهو القرآن، أو غير مباشر وهو السنة- تتسم بالخلود، ولا يمكن أن تتغير بحال من الأحوال لأنها ليست من وضع جماعة المسلمين حتى يجوز لهم التعديل فيها، لهذا لا يمكن تشبيه القرآن والسنة حتى بالقواعد الدستورية وفقاً لاصطلاحات فقهاء القانون العام المعاصرين؛ لأن المسلم به أن للجماعة في كل وقت أن تغير دستورها بمطلق حريتها، ودون أي قيد في هذا الخصوص.

الوجه الثالث من أوجه المقارنة من حيث العلاقة بالدين: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، أو أن الدين يحبس في داخل القفص الصدري أو داخل جدران المساجد.

الفارق الأساسي بين دين الإسلام وغيره من الأديان، الدين الإسلامي دين حياة، ونظام كامل للحياة، لا يمكن أن يرضوا بنا حتى إن رضينا نحن بهم، لأن أهم شيء في الفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أن الإسلام ليس ديناً كهنوتياً بل هو دين حياة، وتطبيق الشريعة الإسلامية يعتبر العدو اللدود لأعداء الإسلام.

فالشاهد من الكلام أن الإسلام دين حياة، ولا يمكن أن يعزل عن الحياة، فلذلك تجد العلماني دائماً حريصاً على خنق الإسلام منع الأذان منع الشعائر الإسلامية عدم اضفاء الصبغة الدينية على المجتمع، وهذا هو الهم الأكبر عند العلمانيين.

يقول الدكتور صلاح الصاوي حفظه الله تعالى: السيادة في المنهج الإسلامي هي سيادة الشرع، وغايتها تحقيق العبودية لله عز وجل، وسياسة الدنيا بالدين، فلا مجال في ظل هذه السيادة لعزل الدين عن شأن من شئون الحياة، أو تقليص سلطانه عليه، اللهم إلا جانب فوض الدين فيه الأمر إلى الخبرة والتجربة، وفيما عدا ذلك فالدين هو الروح التي تسري في أوصال المجتمع كله؛ لأن الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولكن السيادة في المنهج الغربي لها مع الدين شأن آخر، فقد قننت نظريات السيادة في هذه المجتمعات الغربية لتنزع ابتداء السلطة من كل الملوك ورجال الكنيسة، والثورة الفرنسية التي يرجع لها الفضل الأول في نشر هذه النظريات كان شعارها (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس).

وإذا كانت السيادة كما يقول فقهاء الغرب: لا تقبل التعدد، ولا تعرف التقييد، فإن في تقرير هذه السيادة المطلقة لإرادة الأمة أو الشعب إلغاء لدور الدين بالكلية في مجال التوجيه والتشريع، وإبقاؤه مجرد ترانيم وطقوس يمارسها من شاء في أعماق المعابد دون أن يكون لها أدنى دور في مجال من مجالات الحياة العامة، فلا بأس بالدين في ظل هذا المنهج أن يبقى عقيدة في الحنايا، يعني: عقيدة محبوسة داخل القفص الصدري، وشعائر تؤدى في المعابد على أن تنتهي رسالته، ويقف دوره عند هذا الحد؛ لأن ما وراء ذلك من الشئون مرده إلى سيادة الأمة، وهي إرادتها العامة الحرة الطليقة التي تحدد نفسها بنفسها ولا تقبل سلطاناً عليها من أحد، ولهذا كان فصل الدين عن الحياة أمراً ملازماً لهذا المنهج لا ينفك عنه؛ لأن السيادة واحدة لا تتعدد، وقد نزعها هذا المنهج من الدين ومن الملوك، وجعلها حقاً خالصاً لإرادة الأمة.

كذلك من أوجه المقارنة من حيث الحق في التشريع: التشريع في المنهج الإسلامي لا يكون إلا لله، ولا تملك الأمة في ظل هذا المنهج إلا الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية وتطبيقها على ما يجد من الحوادث، وليس لفقهائها ولو اجتمعوا في صعيد واحد أن يتجاوزوا الإطار الذي تحدده هذه النصوص، ومن فعل ذلك منهم ففعله منعدم لا شرعية له ولا اعتبار، يعني: نحن نقول للإخوة الذين يذهبون إلى الغرب ليقيموا: هناك كلام للعلماء في هذا، وهو أنه يجوز لك الإقامة في بلاد الكفار بشروط معينة من ضمنها إظهار الدين، هل من يدخل مجلس الشعب سيقوى على إظهار الدين بهذه المفاهيم التي نتحدث فيها؟ هل يستطيع أحد أن يدخل ويأخذ فرصة ليتكلم عن السيادة التي يمثلها مجلس الشعب في المنهج الغربي والسيادة التي يمثلها الإسلام؟ فهل هو قادر على إظهار دينه في وسط هؤلاء القوم؟ لا يستطيع.

نعم هناك دائرة المباح والعفو، وهو ما سكت الله عنه، وهذه فوضتها الشريعة إلى الأمة لتقرر فيها ما يحقق مصالحها العامة في إطار مقاصد الشرع وقواعده الكلية، ولكن الأصل فيما وراء ذلك هو التقيد بالنصوص والأدلة الشرعية، وقد تقرر في عقيدة التوحيد أن من زعم لنفسه الحق في التشريع بغير سلطان من الله فقد تجاوز حدود العبودية، وتطاول إلى مقام الربوبية، وجعل نفسه نداً لله تعالى، وإنه بذلك يكون قد خلع ربقة الإسلام من عنقه، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١]، ويعد هذا المعنى من الأمور البدهية التي يقف عليها كل من له صلة بعلوم الشريعة، وإن لم يكن من المتخصصين في هذه العلوم.

يقول الدكتور الطماوي: التشريع بمعناه الدقيق في الإسلام إنما هو لله تعالى، وعلى هذا الأساس لا تملك أي سلطة في الدولة الإسلامية -سلطة التشريع- أي: ابتداع أحكام في الدولة، وأما مواجهة الضرورات الجديدة فإنما يكون عن طريق استمداد ما يناسبها من أحكام من التشريع الإلهي، ولقد رأينا أن هذه الوظيفة إنما يقوم بها فئة خاصة من المسلمين هم المجتهدون.

انتهى.

ويقول الدكتور الصاوي: أما التشريع في ظل سيادة الأمة فهو حق خالص من الأمة، لا ينازعها فيه منازع، ولا يشركها فيه شريك، وهذا الحق ثابت لها بالأصالة وهو مطلق بلا حدود، فما تحله هو الحلال، وإن اجتمعت على حرمته كافة الشرائع السماوية كالزنا عن تراض على سبيل المثال، وما تحرمه هو الحرام، وإن اتفق على حله من في الأرض كلهم جميعاً، فإرادة الأمة في هذا طليقة من كل قيد؛ لأنها تعلو جميع الإرادات وتهيمن على كافة السلطات.

ثم يقارن من حيث المصادر الشرعية، فيقول: المصادر الشرعية في المنهج الإسلامي تتمثل في القرآن والسنة، وما حمل عليهما بطريق الاجتهاد، والمراجع التي يرجع إليها الباحثون في هذا المجال هي كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب الفقه، وكتب الأصول ونحوها، والأعلام الذين يستأنس بتفسيراتهم واجتهاداتهم هم الأئمة ال