للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب الاستئذان على الأم والأخت والأبناء البالغين ونحوهم]

في ضوء قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) بين المحققون من العلماء: أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته وبنيه وبناته البالغين؛ لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر، وذلك لا يحل له، وهذا إذا بلغ الإنسان سناً صار لعورته فيها حكم، بمعنى: أنه لا يجوز الاطلاع عليها، فهذا هو الضابط في قضية الاستئذان، فمثلاً: الأطفال الصغار ليس لعورتهم حكم، أما الابن البالغ، أو البنت البالغة، أو الأخت البالغة، أو الأم، وكل من لا يحل لك النظر إلى عورته، فهذا لا بد من الاستئذان عليه، فقد ذكرنا من قبل أن الرجل إذا كانت بنته في داخل غرفة في البيت مغلقة عليها، فلابد أن يستأذن عليها، ولا يقول: أنا أبوها وهي بنتي، وكذلك الأخ لا يدخل على أخته، أو العكس، أما هذه الفوضى التي تحصل في بعض البيوت فإنها مخالفة للشرع، فإذا كان هناك شخص يحرم عليك أن تنظر إلى عورته، ففي هذه الحالة لا يحل لك أبداً أن تدخل عليه إلا باستئذان، ولا يصح أن يحتج أحد بقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:٢٧]، فيقول: هذا بيتي، والله تعالى إنما حرم أن يدخل الإنسان غير بيته! لأننا نقول له: صحيح أنه بيتك باعتبار أنك مستأجره والعقد باسمك، أو أنك تملكه، أما في حكم الشرع: فما دام أنه كان مغلقاً على شخص بهذه المثابة فهو ليس بيتك، لذلك يقول الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى: بيت الإنسان: هو البيت الذي لا أحد معه فيه.

فلو كان هناك رجل يعيش في بيت لوحده، ومعه المفتاح يفتح ويدخل، فليس هناك مشكلة، ولا يحتاج إلى استئذان، فبيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فليس بيتاً له.

نعيد عبارة الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى، يقول: بيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته وأمته، وما عدا هذا فهو غير بيته.

انتهى كلام ابن عطية، وعليه فإن كان يسكن معه فيه إحدى محارمه كأمه أو أخته أو عمته، فلا يكون بيتاً له، ويجب عليه ما أوجبه الله سبحانه وتعالى عليه عند الدخول في بيت غير بيته من الاستئذان على أهله.

وقال الشيخ أبو الحسن المنوفي رحمه الله تعالى: الاستئذان واجب وجوب الفرائض، وقد انعقد الإجماع على وجوبه، فمن تركه فهو عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فإذا كان كذلك فلا تدخل بيتاً فيه أحد حتى تستأذن ثلاثاً، سواء كان ذلك المتواجد فيه محرماً أو غيره مما لا يحل لك النظر إلى عورته.

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٩] عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن، وهذا النص محتمل للأمرين: أن ابن عمر نفسه لا يدخل على ابنه إلا بإذن أو أن الولد لا يدخل على أبيه إلا بإذن في كل الأوقات، وقبل أن يبلغ الحلم يستأذن في الأوقات الثلاثة التي سنبينها.

وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزاً، وأخيه وأخته وأبيه.

قوله: يستأذن الرجل على ولده، أي: البالغ، وكلمة (الولد) تشمل الذكر والأنثى، قال الله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:١١]، فكلمة (الأولاد) تشمل النوعين.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته.

وعن عطاء بن يسار: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أستأذن على أمي؟ فقال: نعم، فقال: إنها معي في البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، فقال الرجل: إني خادمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها)، وهذا مرسل جيد.

وعن هزيل بن شرحبيل قال: سمعت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم.

وعن علقمة فقال: جاء رجل إلى عبد الله قال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تحب أن تراها.

وعن مسلم بن نذير قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن رأيت ما تكره.

وفي رواية: إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: إذا دخل أحدكم على والدته فليستأذن.

وعن موسى بن طلحة قال: دخلت مع أبي على أمي، فدخل واتبعته فدفع في صدري وقال: أتدخل بغير إذن؟ فيفهم منه أن الرجل يدخل على زوجته بلا إذن، أما الابن فلا يدخل على أمه بغيراستئذان.

وعن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: أستأذن على أختي؟ فقال: نعم، فأعدت فقلت: أختان في حجري -يعني: هو الذي يربيهما- وأنا أمونهما، وأنفق عليهما، أستأذن عليهما؟ قال: نعم، أتحب أن تراهما عريانتين؟! ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:٥٨] قال: فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلا في هذه العورات الثلاث، قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:٥٩] أي: الذين مر ذكرهم في الآيات التي ذكرناها من قبل وهم الكبار، قال ابن عباس: فالإذن واجب على الناس كلهم.

وعن ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثلاث آيات قد جحدهن الناس: قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣] قال: ويقولون: إن أكرمهم عند الله أعظمهم شأناً! والإذن كله قد جحده الناس، فقلت له: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم، فرددت على من حضرني، فأبى قال: أتحب أن تراها عريانة؟! قلت: لا، قال: فاستأذن، فراجعته أيضاً، قال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستأذن.

فقال لي سعيد بن جبير: إنك لتردد عليه! - أي ألححت في السؤال وكررت- قال: أردت أن يرخص لي.

وجاء في (الموسوعة الفقهية): يتفق المحرمون للدخول على المحارم ونحوهم إلا باستئذان على أن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال بغير استئذان أيسر من ترك الاستئذان على الأجنبيات؛ لجواز نظره إلى الشعر والصدر والساق من ذوات محارمه دون الأجنبيات.

فهؤلاء يقولون: إن حرمة الدخول على ذوات المحارم وعلى الرجال أخف من النساء الأجنبيات.

وقال فريق آخر بعكس ذلك، فقال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم.

قال: وكان يشدد في ذلك.