[ولادة الشيخ ابن باز وطلبه للعلم]
لا شك أن هذا المصاب الجلل الذي ابتلي به المسلمون حدث عظيم وخطير، ومن أقل حقوق الشيخ رحمه الله تعالى على المسلمين وعلى أهل الإسلام أن يذكر بخير، فإن المؤمنين شهداء الله في الأرض، فلعل في ذكر مآثره ومناقبه رحمه الله تعالى ما يستوجب الدعاء الصالح له، والترضي عنه رحمه الله تعالى.
هو الشيخ الجليل أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز أحد أئمة السنة المطهرة في علوم الشريعة الإسلامية، ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهذه الترجمة مذكورة في كتاب: علماء ومفكرون عرفتهم، شرع الأستاذ محمد المزوكي تسطيرها منذ أكثر من (٢٥) سنة.
يقول: ولد في الرياض عاصمة نجد يوم (١٢/ ذي الحجة/ ١٣٣٠هـ)، فيكون الشيخ توفي عن تسعين سنة تقريباً رحمه الله تعالى.
يقول: في أسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها عمل التجارة، وعلى كثير من كبرائها طلب العلم، ومن أعيان هذه الأسرة الشيخ عبد المحسن بن أحمد آل باز، تولى القضاء في الحوطة، والإرشاد في الهجرة، ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبد المحسن تولى القضاء في بلدان كثيرة كالطائف وبيشة والحلوة.
فالطابع الغالب على أسرته كان طابع الجد في ممارسة الخير؛ سعياً في كسب الحلال، ومذاكرة مسائل الدين، والتزاماً بفضائله، فهي بيئة إسلامية تذكر الناسي، وتعلم الجاهل، وتنبه الغافل.
شاء سبحانه وتعالى أن يحجب عن العلامة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى البصر وهو في مطالع الصبا، وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقرأ عليه كتاب: الأدب العربي في السنة الثانية من الجامعة، ففسر بعض الناس قول امرئ القيس: (له ساقا نعامة) فقال: (ساقا نعامة) يعني: أنه قصير الساقين طويل الفخذين، وهو ما ذهب إليه الأصمعي، فاعترض الشيخ ما في الكتاب بأن العكس هو الصواب، والشيخ رحمه الله تعالى قال يومئذ: إنه قد رأى في حداثته النعامة بالرياض، وفي ظنه أن ساقها أطول من فخذها، فهذا يشير إلى أنه بعد أن أصيب بفقدان البصر كان يتثبت من أشكال الأشياء، وبعض الناس يذكرون أن الشيخ لم يفقد البصر إلا في التاسعة عشرة من عمره رحمه الله تعالى.
ولا شك أن هذا الابتلاء بفقد البصر ضاعف من أثر هذه البيئة المنزلية في نشأته العلمية إذ طالت ملابسته إياها فكثرت صفاته من فضائلها، وانطباعه من سلوكها، ثم تم الله عليه نعمته، فوصله بطائفة من صفوة أهل الصلاح، عنهم أخذ العلم، وبهم تخرج، فجمع بين الحسنيين، مما جعله أنموذجاً حياً بما تصنعه التربية الكريمة إذا التقت بالتثقيف السليم.
كان القرآن العظيم ولا زال إلى آخر حياة الشيخ رحمه الله تعالى هو النور الذي يضيء له حياته، فبدأ دراسته وطلب العلم بالقرآن الكريم، فحفظه عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ومع اجتهاده أيضاً في تحصيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واتباعه في كل ما يصدر عنه وما يأتيه وما يذر، وبعد أن حفظ كتاب الله باشر انطلاقه في طلب العلم وجهاده فيه، فما ينفك عالماً ومتعلماً وواعظاً ومذكراً لا يجد في غير هذه السبيل متعة ولا فائدة، ولم يحبس الشيخ وقته على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ يتلقى عنهم العلم كلاً في حدود تخصصه، وكان أكثرهم من الأسرة التي لا تزال قائمة على رعاية الأمانة، هذه الأسرة المباركة التي تداولت راية العلم منذ حاملها الأول مجدد القرن الثالث عشر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فقد تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن وهو من أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم تتلمذ على الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسن، ثم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، وهو حفيد شيخ الإسلام، وكان المفتي الأكبر في السعودية إلى عهد الملك فيصل.
فأثر هؤلاء المشايخ في عقله وتوجهه، وكانوا يشجعونه على المثابرة في تحقيق الخير والعلم والتبحر في عقيدة السلف.
أما مشايخه من غير آل الشيخ فمنهم الشيخ سعد بن حمد بن آل عتيق وكان قاضي الرياض في ذلك الوقت، ثم الشيخ حمد بن فارس وكان وصي بيت المال فيها، ثم الشيخ سعد البخاري بمكة المباركة والمكرمة، حيث أخذ عنه علم التجويد، إلا أن أطول فترة دراسية قضاها في التتلمذ هي على العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، حيث لازمه في دروسه ما بين سنة: (١٣٤٧ إلى ١٣٥٧هـ)، حيث رشحه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى لتولي القضاء.