للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إحسان الظن بالله والتوبة إليه والطمع في رحمته]

إن وظيفة العمر كله هي وظيفة التوبة والإنابة إلى الله تبارك وتعالى، ولن يعزم العبد على التوبة والاستقامة إلا إذا كان يحسن الظن بربه تبارك وتعالى، فيجب أن نقبل على هذا الشهر ونحن نحسن الظن بالله عز وجل في أن من عاد إليه وتاب إليه تاب الله عليه، ومن استغفره غفر له تبارك وتعالى.

فمهما بلغ الإنسان من التقصير في طاعة الله عز وجل فلابد له من أن يغتنم هذا الموسم العظيم، وأن يطمع في رحمة الله طمعاً لا مزيد عليه، فإن خزائنه لا تنفد.

يقول عز وجل {إِِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣].

وضرب بعض العلماء مثلاً في حسن الظن بالله تبارك وتعالى وفي رحمة الله عز وجل بعباده فقال: أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القائم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجة، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وشد وثاقه، ثم ذهب به هذا العدو إلى بلاد الأعداء، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لوعة الحسرات، وتذكر ما كان فيه من النعيم، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد ذبحه في نهاية المطاف إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريباً، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه، يا أبتاه، يا أبتاه! انظر إلى الولد وما هو فيه، والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه، وعدوه يشتد في طلبه، حتى وقف على رأسه وهو ملتزم بوالده ممسك به، هل تقول: إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه سبحانه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكياً بين يديه، يقول: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا معين له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك، أنت معاذه وبك ملاذه، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك! كان أحد الصالحين يسير في بعض الطرقات، فرأى باباً قد فتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً أين يذهب؟ فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولم يجد من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام ودموعه على خديه، فخرجت أمه بعد حين فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت بنفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين ذهبت عني؟! من يؤويك سواي؟! ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك؟! ثم أخذته ودخلت.

بل نتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أظلت امرأة من السبي ولداً لها، فلما رأته ألقت بنفسها عليه وأخذت تضمه إليها وتبكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقالوا: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).

فالله تبارك وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويرحب بالعائدين إليه، فمن تاب إليه تاب عليه.

فعلينا أن نستحضر هذا المعنى جيداً ونحن نستقبل هذا الشهر، ولا تصرفنا المعاصي والشهوات عن الطمع في رحمة الله تبارك وتعالى؛ فإن خزائنه لا تنفد.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن) ومعنى هذا أن يكون عندنا علو في الهمة، فإذا طلبت فلا تستعظم على الله شيئاً، بل اطلب ما شئت من الله، فإذا سألت الله فاسأل الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأعظم وأشرف مقام في الجنة.