للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواقف العلماء من كتاب الإحياء]

من الناس من غض الطرف تماماً عن المآخذ التي تضمنها هذا الكتاب وغلا فيه، حتى قال بعضهم: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال آخر: لو بعث الله الموتى لما أوصوا الأحياء إلا بالإحياء! وقال ثالث: من لا يطالع في الإحياء فما فيه حياة! وقال رابع: الحجة فيما اختاره الحجة! وقال خامس: دع اللحية واقتنِ الإحياء! يعني: دع الاهتمام باللحية والمظهر واقتن كتاب الإحياء.

وفي الجانب الآخر -وانظر إلى تضارب مواقف العلماء من الكتاب- أفتى بتحريق نسخ الإحياء علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وتم ذلك بالفعل، فقد جمعوا نسخ كتاب الإحياء وأحرقوها، وسماه كثير من علماء المغرب: إماتة علوم الدين، وقام الإمام ابن عقيل الحنبلي أعظم قيام فيه بالذم والتشنيع، وقال فيه قولاً شديداً حوى أوصافاً شنيعة لا نستجيد حكايتها؛ لأننا كطلبة علم لنا حدود لا ننقل كل ما يكون في الكتب.

وصنف بعض العلماء في الرد على ما تضمنه الإحياء من مجازفات، كما فعل الإمام أبو الفرج بن الجوزي، فقد ألف كتاب: إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، والإمام أبو الحسن بن سكر ألف كتاب: إحياء مجلس الأحياء في الرد على كتاب الأحياء، والإمام المازري ألف كتاب: الكف والإنباء عن كتاب الإحياء.

ومن العلماء من زجر عن مطالعته إلا بشروط، كما قال الإمام المازري: ومن لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز، وإن كان فيه ما ينتفع به.

يعني: مع أنه يوجد ما ينتفع به في هذا الكتاب، إلا أنه لا تجوز قراءته لكل أحد، إلا رجل قد آتاه الله من العلم ما ينجو به من غوائل وآفات هذا الكتاب.

ومن العلماء من أرشد في رفق إلى التحذير من مطالعته، كما فعل الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، ومنهم من زجر عن ذلك مطلقاً، كما قال الشيخ عبد اللطيف الحنبلي في رسالة كتبها إلى بعض أصحابه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله عبد الله بن معيذر، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد: فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية؛ وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والثقافة التي اشتملت على الداء الجسيم والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قيام للإسلام إلا به.

وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنه الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة نهج فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها ومطالعة قاصيها ودانيها إلى أن قال: إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشان؟! كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة وزندقة مبهمة أخرجت في قالب الأحاديث النبوية والعبارات السلفية إلخ.

وهناك فريق من العلماء نظر إلى القواعد الجليلة المبسوطة في الإحياء، والمقتبسة من نور القرآن ومشكاة السنة، فرأوه مدرسة تربوية شاملة في جنسها ونفيسة في نفسها، وفي ذاك الوقت أدركوا خطر المجازفات التي تضمنها، والتي تنحرف بمعتقد سالكها عن سبيل أهل السنة والجماعة، فدندنوا حول الإحياء.

إذاً: هناك علماء رفضوا على الإطلاق كتاب الإحياء حتى قاموا بإحراقه، وعلماء غالوا فيه حتى قالوا: كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وعلماء حذروا من قراءته إلا لبعض الخواص ممن قد حشاهم الله بالعلم بحيث يأمنون غوائل الكتاب، ثم أتى هذا الجانب المتوسط الذي أراد أن يجمع بين المصلحتين، واتخذ الموقف الوسط، فدندنوا حول الإحياء يحاولون تهذيبه، وإخراجه غضاً سائغاً من بين فرث الفلسفة ودم الكلام المذموم، ومن هؤلاء الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى، الذي ألف كتاباً في تهذيب كتاب الإحياء سماه: منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، قال في مقدمته: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع.