[معنى الحرية والتحرير]
وقبل أن نستطرد في الكلام في هذا الموضوع وذكر التاريخ من البذرة إلى الحصاد لابد لنا من وقفة مع كلمة (الحرية والتحرر)، فإنه يكثر الكلام في زماننا عن كلمة (الحرية والتحرير)، وكلمة التحرر هي الكلمة الرنانة والمحببة إلى النفس، ويدعي كثير من النظم والهيئات أنها تحقق الحرية، أي: حسب فهم كل لمبدأ الحرية.
والإنسان فقير بذاته يتطلع بفطرته إلى الخضوع والذل والعبودية لخالقه وفاطره الغني بذاته سبحانه وتعالى، فالعبد من حيث كونه عبداً لابد أن يشعر بحاجة إلى هذه العبودية، وفيه شعبة لا يمكن أن يسدها إلا الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والفقر وصف ذات لازم لي أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي فالإنسان السوي المستقيم على الفطرة لا يستقيم حاله ولا يطمئن قلبه إلا إذا أوى إلى مولاه، وطرح نفسه على عتبته، وأمعن في العبودية الخالصة له عز وجل دون سواه، والعبودية لله عز وجل هي أرقى مراتب الحرية؛ لأن العبد إذا تذلل إلى مولاه وحده فإنه يتحرر من كل سلطان، فلا يتوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السماوات والأرض، ولابد للإنسان من العبودية؛ إذ لا يمكن أن يوجد إنسان ليس عبداً، بل لابد من عبودية، فإن وضع العبد العبودية موضعها بأن عبد الله سبحانه وتعالى فهذه أشرف العبودية، وهذه أرقى درجات الحرية على الإطلاق، فإن لم يضع العبودية موضعها فإنه حتماً يتلطخ بالعبودية لغير الله عز وجل من الأنداد والشياطين، والمسلم يتحرر بإسلامه من سيطرة الهوى والشهوة والسلطان، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١].
إذاًَ هذه حرية في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تحرر حقاً إلا بتحقيق هذه العبودية، فإذا وضعت العبودية في موضعها تتحقق لك الحرية، وإلا كنت عبداً لعبيد مثلك، ونحن نعرف الشعار الذي رفعه الصحابة رضي الله تعالى عنهم حينما فتحوا البلاد، فلما سئل ربعي بن عامر من قبل قائد جيش الفرس حيث قال له: ما جاء بكم؟ قال: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فهذا هو شعار هذه الدعوة وهذا الفتح (إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى)، فالحرية في غير الإسلام تصبح جوفاء لا معنى لها، بل هي العبودية المذلة المهينة، حتى لو بدت في صورة الحرية، فالخضوع للطواغيت وللمناهج والقوانين التي بنيت على ما تهواه الأنفس بعيداً عن تشريع الخالق جل وعلا إنما هو عبودية لغير الله، كما يقول الشاعر: هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق الكفر والشيطان فإن لم تضع العبودية والرق في موضعه الصحيح -وهو العبودية لله- فلابد أن تبتلى برق الكفر والشيطان، فمفهوم العبودية لله في الإسلام هو الحرية في أرقى صورها وأكمل مراتبها.
والعبودية لله إذا كانت صادقة فإنها تعني التحرر من سلطان المخلوقين والتعبد لهم، فالمسلم ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فإن الله خلق كل ما فيه من أجلنا وسخره لنا، كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:١٣]، وما دام الأمر كذلك فالمسلم لا يمكن أن يخضع لمخلوق من المخلوقات في هذا الكون، ولا يعبدها؛ لأنها مسخرة له.
إذاً فهي أقل منه شأناً، وهي مخلوقة لنفعه وصلاحه، والمسلم أيضاً لن يستعبده إنسان مثله؛ لأن الناس جميعاً عبيد الله، فإن حاول بعض المتمردين من بني الإنسان أن يطغى ويبغي وقف المسلم في وجهه يقول كلمة الحق ويذكره بأصله الذي منه خلق، ومصيره الذي لابد له منه، ويذكره بضعفه وعجزه عله يفيق أو يرجع، وبالعبودية لله يتحرر الإنسان من أهوائه، فالهوى شر وثن يعبد، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣]، فالهوى قد يُجعل إلهاً معبوداً يسيطر على نفس صاحبه فلا يصدر إلا عن هواه، ولا يسعى إلا لتحقيق ما يبعثه إليه، فالإسلام يعتبر الخضوع لأهواء النفس التي تدعو إلى المحرمات والآثام عبودية لهذه الأمور.
أما الالتفات عما تدعو إليه النفس من المحرمات حتى لو كانت النفوس تميل إليها فإنه يمثل في الإسلام الحرية الحقة؛ لأنه وإن قيدت حريته من جهة بأن ألزم بترك بعض ما يشتهي إلا أنه تحرر من سلطان الهوى من جهة أخرى، وانظر إلى تحرر المسلم أثناء الصيام من عبوديته للشهوات، مع أنها حلال، لكن الله حرم عليه الماء، حتى الماء صار حراماً على الصائم، وكل ما أحل الله سبحانه وتعالى يدعه المسلم في نهار رمضان؛ لأنه تحرر من أن تستعبده هذه الشهوات.
فالذين يزعمون أنهم يستطيعون تحقيق مبدأ الحرية بعيداً عن الله سبحانه وتعالى وعن دينه مخطئون؛ لأن كل مخلوق سيبقى عبداً شاء أم أبى، إلا أنه إن رفض الخضوع لله اختياراً فسيخضع لمخلوق مثله لا يملك له نفعاً ولا ضراً، بل قد يخضع لمن هو أقل منه شأناً، فيكون استبدل عبودية بعبودية، ولم يخرج من العبودية إلى الحرية، بل خرج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت وثناً أو صنماً أو بشراً أو شمساً أو قمراً، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:٦٠]، فمما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به جزاء تكذيبهم أن جعلهم عبيداً للطواغيت بعد أن كانوا عبيداً لله.
ويزعمون أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت الحرية وأن هيئة الأمم المتحدة أقرت الحرية مبدأً، وليس الأمر كذلك؛ فإن ما فعله هؤلاء هو أنهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة إلى عبودية نظام آخر وقانون آخر وطائفة أخرى، فالذين خرجوا من الشيوعية خرجوا إلى عبودية من نوع آخر، ولم يخرجوا من عبودية إلى حرية، فهم بقوا عبيداً وإن ظنوا أنفسهم أحراراً، ولن يحررهم من سلطان البشر ويخلصهم من العبودية الظالمة إلا أن يكونوا عبيداً لله يقصدونه وحده، فعند ذلك يتحررون من سلطان الآخرين حتى من أهواء أنفسهم التي تتردد في أجسادهم، فأخرجوا الناس من ظلمات متراكمة إلى ظلمات أشد، ومن عبودية إلى عبودية، ولن يكون من مخلص من العبودية لغير الله إلا بالإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:٥٠]، فكل من لم يرض بالإسلام ديناً وبحكمه حكماً فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وأوحالها، والذين يرفضون أن يكون الله معبودهم فإنهم يوهمون أنفسهم بتعبيدها لمخلوقات أقل منها شأناً وأحقر منزلة، وهم في ذلك يهينون هذه النفوس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
وبالنسبة لهؤلاء الذين أطلقوا هذه الكلمة (تحرير المرأة) ومنهم قاسم أمين فإنه كان يقصد بذلك الإشارة إلى أنه يرى المرأة في حالة استعباد، وأنه أتى ليحررها من هذا الرق وهذا الاستعباد، كما سنرى إن شاء الله تعالى.
ولو نظرنا في معنى مصطلح التحرير لرأينا أنه يترجم أحياناً إلى (ليبريشن) أو (إيمانسفيشن)، والاصطلاح الشائع في العالم كله بالنسبة لقضية تحرير المرأة هو اصطلاح: (إيما نسفيشن)، و (إيمانسفيشن) يساوي العتق، وليس التحرير، فالتحرير كلمة أعم، لكن الإيمانسفيشن هو المصطلح الذي يعبر عن تحرير المرأة بالعتق، فانعتاق المرأة أدق في تصوير المرأة المسلمة على أنها عبدة، وأنه مطلوب تحريرها بنفس المعنى الذي سوف نستنتجه من القصة التالية.
فقد كان بشر -المشهور بـ بشر الحافي - في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويطربون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين فدق الباب عند أن سمع أصوات اللهو والمعازف، فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر.
فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب.
فاستمع بشر محاورتهما فسارع إلى الباب حافياً حاسراً -حافي القدمين حاسر الرأس- وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك! من كلمك على الباب؟ فأخبرته بما جرى، فقال: أي ناحية أخذ الرجل؟ فقالت: ناحية كذا.
فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: يا سيدي! أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم.
قال: أعد علي الكلام.
فأعاده عليه، فمرغ بشر خديه على الأرض فقال: بل عبد.
بل عبد، ثم هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عرف بالحفاء فصار لقبه: بشراًً الحافي، فقيل له: لمَ لا تلبس نعلاً؟ قال: لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات.
الشاهد من القصة قول الرجل للجارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: حر.
فقال: صدقتِ؛ لو كان عبداً لخاف من مولاه.
أو كما قال، يعني: لو كان محققاً معنى العبودية.
فهؤلاء يريدون أن نكون أحراراً بهذا المعنى الذي هو التحرر من شرع الله ومن أوامر الله عز وجل، والخروج من عبودية الله إلى عبودية كفار الشرق وكفار الغرب، فالحقيقة أن هذه العبودية هي مما يفخر به المسلم.
ففعلاً إنهم يريدون تحرير المرأة من عبوديتها لله، وهذه هي حقيقة دعوة قاسم أمين والشاذلي ومن استنوا بسنتهما، فنحن نفخر بأننا عبيد لله سبحانه وتعالى، كما يقول الشاعر: ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف صفة رفعت مقامه عند الله هي إمعانه في اتصافه بالعبودية، ولذلك فإن أعظم مديح تمدح به رسول الله عليه السلام أن تقول: عبد الله ورسوله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، ولما ج