[مكانة اللحية عند الفقهاء من السلف وتعظيمهم لها]
بلغ من تعظيم الفقهاء للحية أن قال الأئمة أبو حنيفة وأحمد والثوري رحمهم الله: إن اللحية إذا جني عليها فأزيلت بالكلية ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها.
وقال فريق آخر من العلماء: فيها حكومة.
وعلق الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى معلقاً على مذهب أبي حنيفة وأحمد والثوري حيث قالوا: إن على الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها فقال: لأنه أذهب المقصود كله، فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين بحيث لم يعد مرة ثانية.
قيس بن سعد لم يكن له لحية، فقال الأنصار: (نعم السيد قيس لبطولته وشهامته، ولكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم، لاشترينا له لحية ليكمل رجلاً) وقال بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفاً، وكان الأحنف بن قيس فيه دمامة في ملامحه، وفيه نوع من الميل في رجليه، وكان أعور، وفيه نقص في كثير من الصفات الخلقية، لكنهم لم يذكوا حنفه ولا عوره ولا غير ذلك، وإنما ركزوا على عدم وجود لحية له؛ لأن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصاً.
وذكر عن شريح القاضي أنه قال: وددت لو أن لي لحية بعشرة آلاف درهم.
فإذاً: نحن نتعجب من بعض أهل زماننا! يود أحدهم لو بذل مالاً عظيماً؛ ليعدم لحيته إلى الأبد حتى لا يعاني من حلقها دائماً! يقول الشاعر: ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه فإذا كانت اللحية زينة وتكريماً ففي المقابل فحلق اللحية مهانة للإنسان في الحقيقة؛ لأن أئمة الإسلام وعلماء الإسلام لم يوجد من بينهم من حلق لحيته في حياته ولو مرة واحدة إلا إذا كان لعذر المرض.
إذاً: الأصل أنه لم يعرف أبداً عن أئمة الهدى هذه المعصية، بل إن بعض الأمراء في بعض الأزمان لم يكونوا متفقهين في الدين، ومع ذلك كانوا إذا أرادوا أن يؤدبوا فرداً من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته، ويركبونه دابة ويجولون به بين الناس في الأسواق تعزيراً له، لكن الفقهاء قالوا: يجوز للحاكم أو الأمير التعزير بحلق الرأس لا اللحية؛ لأن حلقها حرام.
ألا تتأمل أن الله سبحانه وتعالى ما شرع للرجال أن يحلقوا لحاهم في الحج أو العمرة عند التحلل من الإحرام، إنما شرع لهم حلق الرأس فقط أو التقصير؟! أما اللحية فهل هناك دليل من الكتاب أو السنة يدل على أن اللحية تحلق عند التحلل من الإحرام؟ ابن عمر والذي هو: كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه، ويتشبث بعض الناس بفعل ابن عمر ويقولون: ابن عمر فعل كذا، نقول: نعم ابن عمر فعل ذلك، لكن هل أنتم تتركون لحاكم وتأخذون ما زاد عن القبضة؟! قال بعض العلماء: إن ابن عمر أراد أن يجمع بين الحلق والتقصير، فذهب في معنى قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:٢٧] أي: محلقين رءوسكم ومقصرين لحاكم، فكان يأخذ منها ما فضل على القبضة، والله تعالى أعلم.
بلغ أيضاً من تعظيم السلف لشأن اللحية أن رتبوا على حلقها عقوبة اجتماعية قاسية، وهي رد الشهادة، وقد جاء عن بعض الفقهاء: أن من تعمد حلقها يؤدب وترد شهادته.
وقال العلامة الدسوقي: يحرم على الرجل حلق لحيته أو شاربه، ويؤدب فاعل ذلك.
أيضاً: إذا كان إعفاء اللحية زينة وتكريماً، فحلقها مهانة؛ لأن حلقها مثلة، والمثلة مثل الذي يقطع أذن إنسان أو أنفه أو يفقأ عينه وغير ذلك.
فعن عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة) رواه البخاري، والمثلة: هي التشويه.
وعن سمرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: (ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة) إسناده جيد.
وروى ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه قال: (إن حلق اللحية مثلة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة).
وقال ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز.
فإذا كان بعض العلماء عد قص اللحية مثلة، وعد بعضهم استئصال الشارب بالحلق مثلة، فماذا عن استئصال اللحية كلها؟ إن الوجه عضو مكرم، وهو مجمع المحاسن والحواس، فمن حق الوجه الصيانة لا المثلة والإهانة، وهذا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه).
ولذلك يزجر العلماء عن لعبة الملاكمة أو بتعبير أدق عن الضرب في الوجه؛ لأنه لا يجوز أن تضرب المسلم أبداً في وجهه؛ لأن الوجه مكرم، وينبغي أن تحترم الوجه وتصونه عن أي إهانة أو مثلة.
فهنا أمر لضبط النفس حتى في حالة الغضب، إن كان ولابد أن يحصل بينك وبين أخيك نوع من العراك أو الشجار أو القتال فاجتنب الوجه، فلا تضرب الوجه.
يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه)، وفي لفظ: (فلا يلطمن الوجه)، فلا تضرب أبداً أحداً على الوجه، لا تضرب ابنك ولا أخاك ولا أي أحد على الوجه؛ لأنه منهي عنه.
رأى سويد بن مقرن رضي الله تعالى عنه رجلاً لطم غلامه، فقال: (أوما علمت أن الصورة محترمة) رواه مسلم.
والصورة هي الوجه كما جاء في الحديث: (الصورة الرأس، فإذا قطع الرأس فلا صورة).
ونحن نعجب أيضاً من أهل زماننا الذين يهنئون من يشوه خلقته ويمثل بوجهه، ويحلق لحيته؛ بقولهم له: نعيماً، يقول الشيخ عائض القرني: جحيماً وليس نعيماً!