[من خصائص المنهج السلفي: أنه عاصم من الحيرة والتلون]
من خصائص السلفية ما يعبر عنه قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:١٠٨]، السلفية عاصمة من الحيرة والتلون، وهي سبب من أسباب الثبات على الدين، فالسلفي هو من حفظه الله سبحانه وتعالى وعصمه، ومن نشأ على المنهج السلفي فقد وفر كثيراً من عمره، أما غير السلفي فدائماً يتلون: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل فالسلفي الحق لا يتلون، تعطيه السلفية نوعاً من الثبات، الثبات على المنهج، والوضوح في الانتماء، فطريق السلفية غالباً طريق في اتجاه واحد، قد يرتد بعض الناس لا عن السلفية فقط لكن عن الإسلام كله والعياذ بالله! هذا وارد، لكن القاعدة أنه طريق ذو اتجاه واحد، من مشى فيه لا يرجع إلى الوراء، مثال ذلك: ما جاء في حديث هرقل لما قال لـ أبي سفيان: (وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، قال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب).
ولذلك لا تجدون أبداً عالماً سلفياً يرتد ويرجع إلى الأشعرية أو الاعتزال أو مذهب الخوارج أو غيره، لكن نجد كثيراً جداً من رءوس هذه الفرق يهديهم الله سبحانه وتعالى إلى الحق، ويلحقون بقافلة السلفيين، والأمثلة كثيرة جداً، وأشهرها على الإطلاق الإمام أبو الحسن الأشعري الذي مر بمرحلة الاعتزال، ثم مرحلة التأويل -وهو المذهب الشائع الآن- ثم بمرحلة التزام المنهج السلفي.
ووالد إمام الحرمين عبد الله بن يوسف أبو محمد الواسطي الشافعي ألف رسالة يقول فيها: كنت برهة من الدهر متحيراً في مسألة الصفات والفوقية والكلام في القرآن الكريم، وكنت متحيراً في كذا وكذا، وحكى رحلته مع المنهج، وأنه كان في حيرة وتردد وصراع نفسي ما بين هذا الكلام الذي تعلمه في هذا المذهب غير السلفي وبين نصوص القرآن والسنة، إلى أن هداه الله سبحانه وتعالى، وصار من أئمة أهل السنة، وله رسالة ينصح الناس فيها ويدعوهم إلى مذهب السلف.
ويوجد كتاب: التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، ألفه الشيخ الإمام عماد الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي وفي كتاب آخر غير هذا الكتاب حكى فيه قصة اهتدائه على يد شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كلام في غاية الروعة في الحقيقة.
هذه النماذج تدل على أن السلفية عصمة من الحيرة والتلون، فالذي ينشأ على المنهج السلفي لا يتلون، بينما تجد جماعة التكفير والخوارج الجدد، يتنقل أحدهم من فرقة إلى فرقة، والفرقة يحصل فيها انشطارات داخلية، فتنقسم الفرقة الواحدة إلى فرقتين، ويكفر بعضهم بعضاً، وقد يقاتل بعضهم بعضاً! وهكذا.
فمن طبيعة المنهج السلفي أنه يجمع، فهذا من خواصه الكامنة فيه، فالمنهج السلفي منهج تجميع، ولذلك دائماً تقترن السنة بالجماعة (أهل السنة والجماعة) السنة في مقابلة أهل البدع، والجماعة في مقابلة الافتراق، الحق واحد، أما الباطل فكثير، والقرآن دائماً يأتي بالنور مفرداً وبالظلمات جمعاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً -ثم ذكر العلاج- فعليكم بسنتي)، فالسنة هي علاج الفرقة.
وهنا تجربة واحدة أشير إليها باختصار، وهي تجربة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه: الإمام الغزالي تجول في كثير من المناهج المنحرفة والضالة، أمضى معظم عمره في التجول والبحث عن الحق في هذه الفرق، وللأسف الشديد لم ينتبه إلى منهج النجاة الحقيقي -وهو منهج أهل السنة والجماعة والمنهج السلفي- إلا في آخر عمره، وحاول أن يكفر عما مضى بأن ينهل ما استطاع من القرآن والسنة، حتى أنه مات وصحيح الإمام البخاري على صدره! فالإمام الغزالي يعتبر تجربة فريدة تستحق أن تدرس؛ ليتبين فضيلة المنهج السلفي، وكيف أن من أراد الله به خيراً يئول حاله في النهاية إلى الندم على ما مضى، وإلى الانتقال إلى المذهب السلفي، ومن الرسائل التي تناولت تجربة الغزالي كتاب الأخ عبد الرحمن دمشقية: أبو حامد الغزالي وكتابه إحياء علوم الدين، أو أبو حامد الغزالي والتصوف، وهذه الرسالة سبق أن درسناها منذ زمن.
وهذه مقارنة بين الغزالي وابن تيمية كتبها رجل هو من أخبر الناس بتراث ابن تيمية وهو الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله تعالى، يقول: لا شك أن الغزالي وابن تيمية من أكبر علماء هذه الأمة، وهما من الرجال الذين ملئوا الدنيا، وشغلوا الناس، فقد أحب كلاً منهما فريق من المسلمين، حتى وصلوا في محبته إلى درجة التعصب، والواقع أنني لا أقصد بالمقارنة بين شخصية وآراء الرجلين مجرد المتعة الذهنية، بل إنني أقصد بذلك الموازنة والمفاضلة بين أكبر تيارين فكريين يؤثران على المسلمين حتى أيامنا هذه، فـ الغزالي يمثل التيار الأشعري الصوفي، وابن تيمية يمثل التيار السني السلفي، ولكل من التيارين أنصاره ورجاله، إلى أن يقول الدكتور رحمه الله تعالى عبارة قوية جداً يقول: ولن أحاول أن أدعي حيازاً كاذباً بين الاتجاهين، بل إنني أحدد موقفي بوضوح فأقول: إنني أعتقد أن نهضة المسلمين وانبعاثهم من رقدتهم وغفوتهم إنما تتوقف إلى حد كبير على مدى أخذهم بهذا التيار السلفي السني، أخذاً قائماً على الفهم والدراسة والعلم والعمل بالعلم، لا أخذاً قائماً على التعصب الفارغ والحماسة العاطفية.
ثم يختم بنصيحة رائعة جداً يقول: فليحرص المسلمون على بداية أبنائهم، وتنقية ثقافة شبابهم؛ حتى نعود إلى أصالتنا، ونتحرر من الآثار المدمرة للغزو الفكري الدخيل القديم والحديث.
انظر إلى كلمة: (على بداية أبنائهم) فهو ينبه على أن البداية مهمة جداً، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن يقيض لك أهل السنة والجماعة عند نقطة البداية.
ونماذج الحيرة والتلون بسبب البعد عن المنهج السلفي كثيرة، وكثير من أهل الكلام كـ الرازي والجويني وعامة علماء الكلام ندموا بعدما أنفقوا عمرهم في لا شيء.
الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى -وهو من أفاضل علماء السلفيين المعاصرين، ومن علماء أنصار السنة- كان له قصة مع السلفية، فهو أراد أن يقدم دراسة عليا ينتقد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال له أستاذه: ما وجدت أحداً أعفش -هذه عبارته- من ابن تيمية حتى تقدم فيه دراسة؟ قال له: أنا أعمل دراسة حتى أبين عفاشته! وأنا لا أدري هل هي كلمة فصيحة أم لا؟! لكن هذا هو اللفظ الذي سمعته، فذهب إلى الشيخ محمد منير آغا الدمشقي رحمه الله تعالى، وكان عالماً سلفياً، وكانت عنده مكتبة قيمة جداً، فشرح له مراده، فالشيخ محمد منير آغا تلطف بالدكتور خليل هراس رحمه الله، وما اشتد عليه، مع أنه قال: أنا أريد أن أبين عورات منهج ابن تيمية، وكان عنده فراسة وبصيرة، فماذا فعل؟ وفر للدكتور خليل هراس رحمه الله تعالى كتب شيخ الإسلام فأخذ ينهل منها وينهل، وإذا به ينتهي بالبحث المشهور المتداول الذي اسمه: ابن تيمية السلفي، وقد كان عنوان بحثه: ابن تيمية ليس سلفياً، فتحولت الرسالة إلى: ابن تيمية السلفي، فأصبح مدافعاً عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.