الكفار يستكثرون علينا هذه الرابطة وهذه الهوية، في حين أن تصرفاتهم تبنى على أساس هذه الهوية.
وأذكر على ذلك نموذجاً عابراً يبين كيف أن الهوية العقائدية هي التي تحدد وتوجه سلوك هؤلاء القوم: في كتاب الصربيون خنازير أوروبا للدكتور عبد الحي الفرماوي يقول: في رحلة من رحلات عبد الناصر لحضور أحد مؤتمرات عدم الانحياز في بلغراد، استعد المسلمون في يوغسلافيا وقالوا: عبد الناصر قادم من مصر بلد الأزهر وبلد الإسلام، وهناك صداقة حميمة بينه وبين تيتو، فأعدوا مذكرة لعرضها على الرئيس جمال عبد الناصر بصفته زعيم مصر الإسلامية بلد الأزهر الشريف، وموطن الأئمة الأعلام من العلماء والمحدثين والفقهاء، ومقر مجمع البحوث الإسلامية ومجمع اللغة العربية، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، هذه المذكرة كان الغرض منها أن يتدخل جمال عبد الناصر لدى صديقه تيتو حتى يخفف من وطأة النظام الشيوعي على المسلمين في يوغسلافيا، لاسيما في البوسنة والهرسك وعاصمتها سراييفو؛ حيث يشكل المسلمون فيها أغلبية ساحقة بالنسبة إلى بقية البلدان الأخرى التي يتشكل منها الاتحاد اليوغسلافي، واشتملت المذكرة على المعاناة التي يلاقيها المسلمون على يد الشيوعيون اليوغسلافيين، وعلى حرمانهم من معظم الحقوق المشروعة التي يتمتع بها المواطن العادي، وعلى القوانين الجائرة التي كان يصدرها تيتو، والتي كانت تستهدف المسلمين وحدهم دون بقية الطوائف الأخرى في مجالات التعليم والثقافة والحقوق السياسية والتمثيل النيابي، وفي التضييق عليهم عند ممارستهم شعائرهم الدينية، وفي إهمال مساجدهم فلا بناء لجديد ولا ترميم لقديم، مما جعل معظم المساجد آيلة للسقوط، وما أن تسلم عبد الناصر المذكرة العاجلة من أحد زعماء المسلمين على رأس وفد من علماء سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حتى امتعض وجهه، وتقطب جبينه، وقال بالحرف لرئيس الوفد:(إن مصر لن تسمح بأن تقحم نفسها في الشئون الداخلية للدول الصديقة، وأرجو ألا يتكرر ذلك مرة أخرى!) ثم أنهى المقابلة.
وزيادة في مضايقة وفد المسلمين الذي جاء بالمذكرة ومجاملة لـ تيتو ألغى عبد الناصر المنح التعليمية والأزهرية لطلبة المسلمين في البوسنة والهرسك ذلك العام! إن جمال عبد الناصر الذي رفض مذكرة علماء المسلمين في يوغسلافيا هو نفس جمال عبد الناصر الذي استجاب لمطلب نيكيتا خروتشيف رئيس الاتحاد السوفيتي، فحين هبط خروتشيف إلى مطار القاهرة كان جمال عبد الناصر في استقباله، وبعد أن صافح كل منهما الآخر وضع خروتشيف يده في جيبه الأيمن وأخرج كشفاً بأسماء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات، وقال في دعابة خبيثة: لن أحضر احتفال غمر الأنفاق بالمياه قبل أن يفرج عن الشيوعيين المصريين في سجون مصر ومعتقلاتها، وقبل أن يغادر الرئيسان مطار القاهرة كانت التعليمات قد صدرت إلى مدير مصلحة السجون وأجهزة الأمن الأخرى بالإفراج عن الرفاق المحظوظين الواردة أسماؤهم في كشف خروتشتيف رغم أن بعضهم كان مداناً بجريمة الخيانة العظمى! ومع ذلك فلم يعتبر عبد الناصر ما حدث من خروشتوف تدخلاً سافراً عرياناً في شئون مصر الداخلية.
ونفس الشيء حصل لما قدمت مذكرة طبق الأصل من مذكرة عبد الناصر لـ أحمد سوكارنو وكان مصيرها نفس المذكرة.
والموقف الآخر أيضاً من يوغسلافيا فيما يتعلق بالمعاملة الوحشية للمسلمين، وهذه المذابح الأخيرة لفتت النظر، أما المذابح القديمة على يد خروتشيف وقبله أيضاً بعد الحرب العالمية فما كاد يسمع عنها أحد شيئاً، وكثير من المسلمين ما كانوا يعرفون أن يوغسلافيا في هذا الكم الهائل من الشعوب الإسلامية دولة في منطقة البلقان؛ لأننا نهمل الاطلاع ومعرفة أجزاء جسدنا، ولا نعرف هويتنا.
كان هناك كاتب إسلامي يدعى علي عزت بيغوفتش كان قد ألف كتاباً في سنة (١٩٧٠م) اسمه: (البيان الإسلامي)، اعتبر تيتو وحكومته الشيوعية هذا الكتاب خطراً يهدد أوروبا الشيوعية، فقالوا في إدانة هذا الكتاب: إن هذا الكتاب ميثاق عمل إسلامي يضم المسلمين من إندونيسيا حتى المغرب في اتحاد وسيف متكاتف، وفور ظهور الكتاب الإسلامي اعتقلوا صاحبه علي عزت بيغوفتش، وألقوه في غياهب السجون، وخلال إحدى زيارات تيتو المتكررة إلى مصر طلب الشيخ الباكوري وزير الأوقاف حينئذ من الرئيس عبد الناصر أن يفاتح تيتو في الإفراج عن الزعيم المسلم الذي أودع المعتقل، ويجري تعذيبه في بلغراد، وعندما استفسر جمال من صديقه تيتو عن هذا الموضوع أجابه قائلاً: إن هذا الرجل أخطر من تنظيم الإخوان المسلمين عندكم في مصر، وهو يطالب بأن تتولى الحركة الإسلامية السلطة في أي بلد تكون لها فيه الأكثرية العددية، كما أن هذا الرجل يرصد كل ما هو غير إسلامي في مجتمع المسلمين، ثم توقف تيتو قليلاً وسأل عبد الناصر: لماذا تتوسط له وأنت تتخذ نفس الموقف منهم في مصر؟! وسكت عبد الناصر لقوة الحجة والمنطق التي تحدث بها تيتو.
وهذا موقف عقائدي ينبني على انتماء لهوية تتجاوز حدوث الأرض والأوطان؛ لكي تكون العقيدة هي المسيطرة، فلماذا يكون ذلك حلالاً لهم وحراماً علينا؟!