أدلة من لا يكفر تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً
وقبل معرفة الأدلة ينبغي أن نعلم أن الخلاف هو في الذي يقر بوجوب الصلاة ويكسل عنها، أما الذي يجحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد وإن كان يصلي الفرض والنفل ويحافظ على الصلاة في الجماعة، ويأتي بظاهرها وباطنها، فمن كان يفعل ذلك ويقول: أنا أفعل هذا وأعتقد أن الصلاة ليست فريضة وليست واجبة، فهو كافر كفراً اعتقادياً؛ لأنه أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
فالذي لا يقر بوجوب الصلاة لا خلاف في كفره بين العلماء، لكن اختلفوا في الذي يقر بوجوب الصلاة لكنه يكسل عن أدائها، فهذا هو محل الخلاف، أما الشخص الذي يجحد وجوب الصلوات فهو كافر مرتد مشرك حلال الدم والمال، واليهود والنصارى خير من الذي يجحد وجوب الصلاة، حتى ولو كان يصلي.
فكلامنا عن حكم تارك الصلاة الذي يقر بوجوبها ويكسل عنها.
وهنا مجموعة من الأدلة التي استدل بها الذين لا يكفرون تارك الصلاة: الدليل الأول: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له، وسهام الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة، ولا يتولى الله عبداً في الدنيا فيوليه غيره يوم القيامة، ولا يحب رجل قوماً إلا جعله الله معهم، والرابعة: لو حلفت عليها رجوت ألا آثم: لا يستر الله عبداً في الدنيا إلا ستر عليه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد والحاكم والنسائي وغيرهم، وهو حديث صحيح.
فهذا الحديث يدل على أن من جاء بسهم واحد أياً كان هذا السهم وترك بقية سهام الإسلام كلها فإن حكمه يختلف عن حكم من ترك سهام الإسلام كلها ولم يأت منها بأي سهم.
فوجه الدلالة في هذا الحديث على عدم تكفير تارك الصلاة أنه جعل الصلاة سهماً من أسهم الإسلام، مثل الصيام ومثل الزكاة، ثم صرح بأن من أدى واحدة من هذه الأسهم الثلاثة كان له سهم في الإسلام، ولا يتساوى في الحكم مع من لم يؤد واحداً منها، فهذا يدل على أن من أدى الزكاة فقط -مثلاً- وترك الصوم والصلاة له سهم في الإسلام، وعليه فإن له نصيباً فيه، فلو كان ترك الصلاة مخرجاً من الملة بالكلية لما كان له -أصلاً- نصيب في الإسلام.
فقوله: (لا يجعل الله من له سهم في الإسلام -أي: من هذه الأسهم الثلاثة- كمن لا سهم له، وأسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هو الدليل الأول الذي استدلوا به.
الدليل الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق) والصوى علامات من الحجارة توضع على الطريق لتبين مراحل الطريق في السفر، قال: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فالذي انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) هذا رواه المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) وهو حديث صحيح رجاله ثقاة رجال الشيخين.
فوجه الدلالة في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل هذه منارات وعلامات في الإسلام، أعظمها بلا شك: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، ومعلوم أن التوحيد هو شرط في صحة كل شعب الإيمان، إذا فقد التوحيد بطلت كل شعب الإيمان، ولا ينتفع بها صاحبها في الآخرة.
قال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم، فإن ردوا عليك ردت عليك وعليهم الملائكة، وإن لم يردوا عليك ردت عليك الملائكة ولعنتهم أو سكتت عنهم، وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت عليهم، فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) فقوله: (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه) يعم كل ما تقدم ذكره ما عدا شهادة التوحيد؛ لأنها شرط في صحة كل شعب الإيمان، فالذي لا يأتي بالتوحيد لا نقول عنه: إنه ترك سهماً من سهام الإسلام.
بل إنه لا حظ له في الإسلام، لكن المقصود باقي الشعب المذكورة، وهي (أن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) إلى آخره، يقول (فمن انتقص منهن شيئاً فهو سهم من الإسلام تركه، ومن تركهن -يعني: جميعاً- فقد نبذ الإسلام وراء ظهره).
الدليل الثالث: عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له) ووجه الدلالة قريب مما مضى.
الدليل الرابع: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خمس صلوات افترضهن الله تعالى، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والبغوي في (شرح السنة) وفي بعض الروايات: (وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن).
فمعنى ذلك أن من قصر في شيء من هذه الصلوات فإنه يدخل تحت المشيئة، فإن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذا شأن أهل الكبائر وليس شأن المشركين أو الكفار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فإذا كان ترك الصلاة كفراً فإن الله لا يغفره، أما دخوله هنا تحت المشيئة فيدل بنص هذا الحديث على أنه لا يكفر بذلك كفراً يخرجه من ملة الإسلام.
الدليل الخامس: عن عبادة رضي الله عنه مرفوعاً: (خمس صلوات افترضهن الله على عباده، فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وهذا -أيضاً- حديث صحيح، ووجه الدلالة واضح وموافق لما مضى.
الدليل السادس: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أدخل رجل قبره فأتاه الملكان فقالا: إنا ضاربوك ضربة.
فقال لهما: علام تضرباني؟! فضرباه ضربة امتلأ قبره منها ناراً، فتركاه حتى أفاق وذهب عنه الرعب، فقال لهما: علام ضربتماني؟ فقالا: إنك صليت صلاة وأنت على غير طهور، ومررت برجل مظلوم ولم تنصره) وهذا رواه الطبراني وهو حديث حسن بطرقه.
الدليل السابع: عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه) وهذا رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح ورجال إسناده ثقات.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل منه الإسلام مع هذا الشرط، فكونه قبل منه الإسلام مع أنه اشترط أنه لا يصلي غير صلاتين يدل على أنه لا يمكن أن يقبل منه شرطاً لا يدخله في الإسلام، فهذا الحديث يدل -أيضاً- على أنه لم يكفر بذلك.
الدليل الثامن: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إن أول ما يحاسب به الناس من أعمالهم الصلاة، فيقول ربنا للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي هل أتمها أم نقصها.
فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان قد انتقص شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه.
ثم تؤخذ الأعمال على ذلكم) وهذا حديث صحيح ثبت عن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
الدليل التاسع: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:٧٢] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة) وهذا رواه الإمام أحمد، والشاهد هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء) فهذا دليل على عدم تكفير المتعمد ترك الصلاة كسلاً.
الدليل العاشر: عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة -أي أنه ظل يردد هذه الآية حتى صلى صلاة الفجر- وقال: دعوت لأمتي.
قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك؟ - قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة.
قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى.
فانطلقت معنقاً قريباً من قذفة بحجر فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا عن العبادة.
فنادى أن: ارجع فرجع، وتلك الآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]).
الدليل الحادي عشر: عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى