[أدلة المجيزين القيام للقادم]
يقول رحمه الله: الله تعالى أمر باللطف بالمسلمين، وإكرام أهل العلم والورع والدين، فقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:٨٨]، ومن اللطف بهم والإكرام: أن يحترموا بإلانة القول لهم، والقيام لا على طريق الرياء والإعظام، بل على ما ذكرناه من التكريم والاحترام، وعلى هذا استمر ما لا يحصى من علماء الإسلام وأهل الصلاح والورع وغيرهم من الأفاضل الأعلام، فالذي يختار: القيام لأهل الفضل والمزية من أهل العلم وقرابته والوالدين والصالحين وسائر أخيار البرية، فقد جاءت بذلك جمل من الأخبار، وأقوال السلف الكرام الأبرار، وأفعال العلماء والصلحاء أهل الورع والزهاد وغيرهم من الأخيار.
ثم عقد باباً فيما ورد في الترخيص من الآثار والأخبار، وما قال فيه الأعيان من العلماء والأخيار.
وذكر بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن يهود نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فأرسل إليه، فجاء على حمار، فلما بلغ قريباً من المسجد قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى خيركم أو سيدكم)، وهناك رواية مشهورة على ألسنة الناس بلفظ: (قوموا لسيدكم)، لكن الوارد: (قوموا إلى سيدكم)، وأضف إلى قرينة وجود (إلى) كلمة (أنزلوه)؛ لأنه كان على حمار، وكان مجروحاً رضي الله عنه.
وروى الحافظ البيهقي وأبو موسى الأصبهاني بسندهما عن الإمام مسلم قال: لا أعلم في قيام الرجل للرجل حديثاً أصح من هذا، وهذا القيام على وجه البر لا على وجه التعظيم.
يقول النووي: وقد أفصح الإمام مسلم رضي الله تعالى عنه بحقيقة المطلوب في هذا الكلام المختصر رحمه الله تعالى ورضي الله عنه.
وقال الخطابي والبغوي بعد رواية حديث أبي سعيد رضي الله عنه السابق: في هذا الحديث أن قيام المرءوس للرئيس الفاضل والوالي العادل، وقيام المتعلم للعالم مستحب غير مكروه، وإنما جاءت الكراهة فيمن كان بخلاف هذه الصفات، فيحمل كراهة القيام للقادم فيمن كان فاجراً أو فاسقاً أو غير ذلك من الصفات الدنيئة، أو إن كان قيامه من أجل الدنيا أو الرياء.
قال البغوي والخطابي: وما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال صفوفاً) فهو إذا كان يأمرهم بذلك، ويلزمهم به على مذهب الكبر والنخوة.
وعن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده كعب رضي الله عنه في حديث توبته الطويل المشهور فذكره إلى قوله: (وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت المسجد -يعني: لما بشر بنزول التوبة من الله عليهم- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله! ما قام إليَّ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لـ طلحة)؛ لأنه قام يهنئه بالتوبة، وهذا حديث متفق على صحته.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته، وأجلسته في مجلسها) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وحسنه الترمذي، يقول النووي: وهذا الحديث من أصرح الأدلة في المسألة.
وروى النووي رحمه الله حديثاً مثل حديث عائشة، وهو: أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه -يعني: من الرضاعة- فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه)، وهذا الحديث ضعيف.
وروى النووي أيضاً بسنده عن ابن شهاب: أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام كانت تحت عكرمة بن أبي جهل، فأسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها من الإسلام حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام، فأسلم، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحاً وما عليه رداء حتى بايعه، هكذا رواه الإمام مالك مرسلاً، وهذا والحديث الذي قبله وإن كانا مرسلين يصح الاحتجاج بهما في هذه المسألة؛ وذلك لأن أكثر الفقهاء قالوا بجواز الاحتجاج بالمرسل، وقال الشافعي وأكثر أهل الحديث: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد.
ومذهب الشافعية هو التساهل في الأخذ بالحديث المرسل، لاسيما إذا كان عن كبار التابعين، وقال الشافعي رحمه الله كلاماً حاصله: إذا روي المرسل مسنداً أو مرسلاً من طريق أخرى، وقال به بعض الصحابة أو عوام أهل العلم؛ جاز الاحتجاج به.
وقوله: عوام أهل العلم ليس المقصود عوام الناس؛ فالعامي مأخوذ من العمى، وهو الذي يقوده غيره، لكن المقصود بعوام أهل العلم: عامة أهل العلم.
قال النووي: وقد وجد في هذا الحديث ما يجوز الاحتجاج به، وهو ما قدمناه من الشواهد له، وما سنذكره بعده من أقوال العلماء.
والله أعلم.
وأيضاًَ ذكر الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا فإذا قام قمنا قياماً حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه)، وهذا الحديث إن صح، ليس له تعلق كبير بالمسالة، فكلامنا على القيام للقادم، أما كون جماعة من الناس يجلسون، وبعدما فرغوا قاموا، فليس في هذه المسألة، إلا أن يقال: إنهم قاموا إكراماً له عليه الصلاة والسلام، يقول الإمام النووي: إسناد هذا الحديث إسنادٌ صحيح، ورواته كلهم مشهورون بالعدالة، إلا هلالاً فإنه ليس بمشهور.
وروى أيضاً عن أبي هشام الرفاعي قال: قام وكيع لـ سفيان، فأنكر عليه قيامه، فقال: أتنكر عليّ قيامي وأنت حدثتني عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إجلال ذي الشيبة المسلم) يعني إن من تعظيم الله أن تعظم المسلم الذي شاب في الإسلام، فأخذ سفيان بيده، فأجلسه إلى جانبه.
وعن محمد بن الصلت قال: كنت عند بشر بن الحارث -يعني: الحافي الزاهد رضي الله عنه- فجاءه رجل فسلم عليه، فقام إليه بشر، فقمت لقيامه، فمنعني من القيام، فلما خرج الرجل قال لي بشر: يا بني! تدري لما منعتك من القيام له؟ قلت له: لا، قال: لأنه لم يكن بينك وبينه معرفة، وكان قيامك لقيامي، فأردت ألا يكون لك حركة إلا لله عز وجل خالصة.
وعن أبي أحمد بن عدي الحافظ عن عبد المؤمن بن أحمد بن حوثرة قال: كان أبو زرعة الرازي رحمه الله تعالى لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحداً مكانه إلا ابن وارة، فإني رأيته يفعل ذلك معه.
يعني: لمكانته في الإمامة والعلم.
وقال الإمام أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه (آداب الصحبة): ويقوم لإخوانه إذا أبصرهم مقبلين، ولا يقعد إلا بقعودهم، وأنشد: فلما بصرنا به مقبلا حللنا الحبى وابتدرنا القياما فلا تنكرن قيامي له فإن الكريم يجل الكراما وروى الحافظ أبو موسى بإسناده عن الإمام أبي سعيد النقاش قال: النبلاء من الرجال والعلماء يكرهون قيام الرجل لهم؛ لكراهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مباحٌ لبعض الناس أن يقوم للناس.
ثم قال النووي: هذا ما تيسر ناجزاً من الأحاديث وأقوال الأئمة في الترخيص في القيام، وحاصله: أنه ثبت ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة، وبأمره بذلك الأنصار، وبتقريره حين فُعل بحضرته، ومن فعل جماعة من الصحابة والسلف رضي الله تعالى عنهم في مواطن وجهات مختلفة، وفعل أئمة الناس في الحديث والفقه والزهد في أعصارهم.