للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مواضع ذكر الرفق في القرآن]

ورد في القرآن الكريم لفظ الرفق ومشتقاته في خمس آيات كريمات: الأولى: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] فرفيقاً معناه: صاحباً، لماذا سمي الصاحب رفيقاً؟ لانتفاعك في صحبته؛ وسبق أن الارتفاق: هو الانتفاع؛ لأنك إذا صاحبت هؤلاء تنتفع بصحبتهم، فيسمى الصاحب رفيقاً لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض؛ لأن الصحبة التي تكون رفقة ينفع بعضهم بعضاً.

الثانية: قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:٦].

الثالثة: قال تبارك وتعالى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:١٦] فمرفقاً يعني: يهيئ لكم ما تنتفعون به، قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات، على أن لذاتها لم تخل من أذية، وهذه خالية عن الأذيات كلها.

ولماذا جزموا بهذا الأمر فقالوا: (ينشر لكم)؟ هذا جواب الأمر، يعني: أن العاقبة إن أويتم إلى الكهف وهجرتم الكفرة الوثنيين ستكون هي الرفق؛ فمن أين جاء هذا الجزم؟ جاء من يقينهم وقوة رسوخهم بفضل الله تبارك وتعالى، وأنه لن يضيعهم، ومن قوة وشدة توكلهم على الله سبحانه وتعالى.

إذاً: هذه الآية توضح أحد معاني الرفق: (ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً) المرفق هنا: النفع الذي لا أذية فيه، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الفتية المؤمنين، (ويهيئ لكم من أمركم) الذي أنتم فيه ما ترتفقون به وتنتفعون بحصوله، فهم لجئوا إلى الكهف فراراً من هؤلاء المشركين الذين قد يجبرونهم على الكفر، فنشر الله لهم من رحمته، ووسع عليهم، وسهل لهم الأمر، وجعل لهم الانتفاع والفائدة من هذا اللجوء إلى الكهف حيث أبعدهم عن أعين الكفار، وسلموا من القتل والبطش والفتنة في الدين.

الرابعة: قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩] (ساءت مرتفقاً) أي: ساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق، وهذا ذم لحالة النار نفسها، أنها ساءت المحل الذي يرتفق به؛ لأنه ليس فيها ارتفاق، وإذا كانت النار بهذه الوصفة، هل فيها ارتفاق أو منفعة؟ لا، (ساءت مرتفقاً) بمعنى: ليس فيها ارتفاق، وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة، فهذا يجمل ما ورد في الآيات الأخرى من التهكم حيث يقول: (بشر) وكأن البشرى ستكون بخبر عظيم، إلا أنه يفاجأ السامع بأنه عذاب أليم، (وساءت مرتفقاً) يعني: ليس فيها ارتفاق وإنما فيها العذاب العظيم الشاق الذي لا يفتر عنهم ساعة ولا نفع فيها على الإطلاق.

الخامسة والأخيرة: قوله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١] فهذه الدار الجليلة، هي نعم الثواب للعاملين، (وحسنت مرتفقاً) أي: يرتفقون بها، ويتمتعون بما فيها مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من الحبرة والسرور والفرح الدائم واللذات المتواترة والنعم المتوافرة، وهذا بلا شك أحد معاني الرفق.

إذاً: من هذه الآيات القرآنية الخمس يتضح لنا بعض معاني الرفق ومرادفاته: الآية الأولى هي قوله تعالى: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] الرفق بمعنى: لين الجانب والصحبة.

الآية الثانية قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:٦] المرافق جمع مرفق، وهو ما يتكئ عليه ويستفاد منه وينتفع به؛ لأن المرافق يتكئ عليها الإنسان، فينتفع بهذا الاتكاء.

الآية الثالثة: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:١٦] فالمرفق هنا بمعنى: الانتفاع وسهولة الأمر وتأثيره.

أما الآيتان الرابعة والخامسة التي فيها: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩] {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١] فالمعنى اختلف بحسب فعل الذم أو المدح، فـ (ساءت مرتفقاً) يعني: ساء المحل والمقام الذي يسكنون فيه، ولا يوجد فيه نفع ولا فائدة، والآخر: (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) المراد حسن التمتع والفائدة وحصول النفع لغيره، وهذا أحد معاني الرفق.

نكتفي بهذا القدر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.