للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر البيئة الأسرية في تكوين الشخصية]

الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على نبينا محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ ثم أما بعد: فعن الأسود بن سريع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في سننه، ورمز له السيوطي بالصحة.

قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود) يعني: كل مولود من بني آدم يبقى على هذه الفطرة، ويولد سليماً نقياً مستعداً لتوحيد الله سبحانه وتعالى؛ ولو افترضنا أن هناك طفلاً ولد في مكان بحيث تهيأت له أسباب الحياة دون أن يخالط أي مخلوق من البشر؛ لنطق هذا الطفل إذا شب وبلغ بالتوحيد، ولاهتدى بفطرته التي غرسها الله فيه إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والإيمان به.

فالفطرة السليمة هي الأصل، ثم يطرأ بعد ذلك الانحراف بسبب عوامل منها: عوامل البيئة، والوالدين، وهما من أقواها؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)؛ ففي هذا إشارة إلى خطر تأثير الأبوين في اتجاه ومستقبل أولادهما.

فإذا كانت التربية فاشلة، أو كان الوالدان كافران؛ فهذا الطفل سوف يقلد أبويه، وتفسد فطرته بهذه العوامل، أما إذا بقي على الفطرة السليمة النقية، ثم جاء الأبوان يقويان هذه الفطرة؛ حينئذ ينظر فيما نصب من الدلائل الجلية على التوحيد وفقه الرسول صلى الله عليه وسلم نظراً صحيحاً يوصله إلى الحق والرشد، ويعرف الصواب ويلزم ما طبع عليه في الأصل من هذه الفطرة.

أما إذا كان أبواه يهوديين أو نصرانيين فهما اللذان يهودانه أو ينصرانه ويكونا السبب في الانحراف عن هذه الفطرة.

وقوله: (أو يمجسانه) أي: يدخلانه المجوسية، بأن يصداه عما ولد عليه، ويبينا له الملة المبدلة والنحلة الزائفة، وهذا لا ينافيه قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]؛ لأن المراد به: لا ينبغي أن تبدل تلك الفطرة، وحق هذه الفطرة أن تبقوا عليها؛ لأنها صبغة الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:١٣٨]، أو قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:٣٠]: خبر يراد به نهي الناس عن أن يتسببوا في تبديل فطرة الله، وفي مسخ عقائد الناس، فهو خبر بمعنى النهي كما قال البيضاوي.

والفطرة تدل على نوع من الفطر، وهو الابتداء والاختراع، فقد تنازع أعرابي مع آخر على بئر فقال أحدهما للآخر: أنا الذي فطرتها، يعني أنا الذي ابتدأت حفرها، والمعني بها هنا: تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة؛ إذ ليس المقصود قطعاً فطرة الإسلام، وليس المقصود أن المولود إذا ولد يكون عالماً بالإسلام والإيمان والإحسان، ومتعلماً قضايا التوحيد بدلائلها وغير ذلك؛ لأن الواقع غير ذلك، لكن المقصود التهيؤ والاستعداد لقبول الحق، وهذه الفطرة لا تلبث أن تنمو رويداً رويداً إلى أن تصل أقصاها في سن البلوغ الذي جعله الله سبحانه وتعالى سن التكليف؛ فحينئذ تفصح عن نفسها، ويعرب هذا الإنسان عما رسخ في فطرته من الاعتقاد في حقائق الوجود؛ لأن أقوى دليل على وجود الله سبحانه وتعالى هو الفطرة نفسها؛ فكل إنسان يشعر بهذه الحقيقة الإيمانية الكبرى؛ فالإنسان إذا ترك على ما فطر عليه، واستمر على لزوم هذه الفطرة، ولم يفارقها ولم يغيرها؛ فلسوف يبقى على هذه الفطرة وسيقبل الإسلام ويستقيم على دين الله سبحانه وتعالى؛ وإنما يعدل عنه بآفة من الآفات البشرية والتقليد، فالفاء في قوله: (فأبواه)، للتعقيب أو للتسبب، أي: إذا تقرر ذلك فمن تغير عن هذه الفطرة فإنما يكون ذلك بسبب أبويه.

والحاصل أن الإنسان مفطور على التهيؤ لأن يدين بالإسلام بالفعل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨]، فنحن نُخلَق ولا نعلم شيئاً، لكن هذه البذرة موجودة في قلب الإنسان بعوامل متعددة، ويبدأ يستيقظ فيه هذا الشعور ويتنامى ويكثر في وقت من الأوقات، ذلك حينما تكثر أسئلة الطفل عن الوجود والسماء والشمس والقمر، ويبدأ يسأل أسئلة ليستكشف بدافع من هذه الفطرة الكامنة فيه حقائق الوجود، حتى إذا ما وصل سن التكليف فإنه يكون ناضجاً لدرجة تؤهله أن يكون مكلفاً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- فهو مهيأ للإسلام بالقوة؛ لكن لابد من التعلم واكتساب العلم بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة قيض الله له من يعلمه سبيل الهدى؛ فصار مهذباً بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته ويثني عزيمته، والله سبحانه وتعالى هو المتصرف في عبيده كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٧ - ٨].

وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: (كل إنسان تلده أمه على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ فإن كانا مسلمين فمسلم)، ورواه البخاري بلفظ: (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه؛ كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء).

خلاصة الكلام في هذه القضية: أن هذا الحديث يشير إلى عنصر مهم جداً في تكوين الشخصية في مراحل الطفولة أو الشباب أو المراهقة، وهو تأثير البيئة التي تعد أخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق، وبالذات بيئة الأسرة التي تحيط بالإنسان.

وهو أيضاً يشير إلى أهمية استقلالية المسلمين في استقاء المناهج التربوية عن الملاحدة والكافرين من أهل الغرب وغيرهم الذين اقتحموا هذا الباب وأفسدوا فيه كثيراً من الأمم في هذا المجال كثيراً وأبعدوها عن صراط الله سبحانه وتعالى المستقيم.

والحقيقة أن المناهج التربوية السوية والمستقيمة ينبغي أن تكون حكراً على المسلمين؛ بناءً على قوله تبارك وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤]، وترببية النفس البشرية ليست كغيرها من العلوم التي تخضع للتجارب المعملية والأمور الحسية، إنما هي محاولة لاستكشاف خصائص هذه النفس، وقد يصيبون أحياناً ويخطئون أحياناً أخرى، ويختلط عندهم الخطأ بالصواب، نظراً لاختلاف الثقافة والمفاهيم للحياة وللكون والألوهية، فمن الخطأ الجسيم أن تطبق هذه المناهج الغربية التربوية على أبناء المسلمين مع الاختلاف الشاسع بين قوم يؤمنون بالله وبالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبين قوم يكفرون بالله سبحانه وتعالى وكتابه ورسوله؛ لا شك أن العقيدة سوف تنعكس في هذه المناهج كما سنرى ذلك بالتفصيل.

كما أن كثيراً من حقائق هذه العلوم النفسية مبثوثة في ثنايا القرآن والسنة، وقد يأتي الشق السليم من علوم النفس وعلوم التربية ويتوافق تماماً مع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، وهذه العلوم لا تؤكد هذه المفاهيم، وإنما هي تستكشف حقائق قد غرسها الله سبحانه وتعالى في هذه المخلوقات بالفعل، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٦]، هذه الآية تشير إلى حقيقة تعترف بها العلوم الحديثة، وقد تزعم أنها هي التي استنبطتها، وهي: أن هناك فرقاً بين البلوغ وبين الرشد، فقد يبلغ الإنسان ولا يكون راشداً، بالذات في أوائل مرحلة المراهقة، فهو من الناحية الجسمية أو التناسلية صار ناضجاً، لكنه ليس راشداً فيتأخر النضج العقلي عن النمو الجسدي، فهذه الأمور موجودة في هذه الآية الكريمة؛ لأن الله تعالى قال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، هذه إشارة إلى أن البلوغ هو في جانب التناسل، وحينئذ يبدأ اختبارهم كي تعلموا هل بلغوا الرشد أم لا؟ فإذا بلغوا الرشد {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:٦].

أيضاً هذا الحديث لا شك أنه يعكس معلومة مهمة جداً، وهي تأثير البيئة التي تعتبر أكبر وأخطر مؤسسة تربوية على الإطلاق.

وعليه سنبدأ إن شاء الله تعالى بفتح ملف المراهقين؛ كيف نفهم المراهقين؟ وما هي مشاكل المراهقين؟ وكيف ينبغي أن تحل؟