[التقوى]
تقوى الله عز وجل من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى، وقد كثرت تعاريف العلماء للتقوى، قال الراغب الأصفهاني: التقوى حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات.
وعرف الإمام النووي تقوى الله بقوله: امتثال أمره ونهيه، فهي الوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى، وذلك بأن يفعل الإنسان أفعالاً تكون وقاية وحائلة بينه وبين النار.
أما الجرجاني فعرفها بقوله: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وهو صيانة النفس عما تستحق به العقوبة من فعل أو ترك.
فمن لم يحفظ نفسه عما يؤثمه فليس بمستقيم، فمن شاهد بعينيه ما حرمه الله تعالى فمعنى ذلك أنه أزال الحجاب بينه وبين النار، واستحق عذاب الله؛ لأنه لم يتق الله، ولم يكف عينه عن ارتكاب الذنب الذي يسخط الله، فمن ارتكب المعصية فقد أزاح هذا الحجاب واقتحم بنفسه النار.
وهكذا من سمع بأذنيه ما يغضب الله تعالى، أو بطش بيديه فيما لا يرضى الله تعالى، أو مشى إلى ما يمقت الله تعالى، فهذا لم يعصم نفسه من الإثم ولم يتق الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١]، حتى الأنبياء أمروا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١].
أما كون التقوى من أسباب الرزق فدليل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:٢ - ٣].
فنريد أن نرسخ هذه المفاهيم في قلوبنا، فالناس الذين يهجمون على الحرام خشية أن يفوتهم الزرق أو يتعاطون الحرام خشية قلة المال، لم يعلموا أن الحرام ليس في الحقيقة سبباً من أسباب سعة الرزق، بل هو فتنة وبلاء.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢]، فمن أراد المخرج فليتق الله، وبالتالي ليسأل عن الطاعات والمحرمات والشبهات، فإذا اتقى الله سبحانه وتعالى وصدق في التقوى فإن الله وعده وعداً لا يخلف أن يجعلَ له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب، فإذا ادعى أنه اتقى الله ولم يجعل له مخرجاً فنقول له: راجع نفسك فإنك لم تتق الله حق تقاته، فعد إلى نفسك وصحح التوبة؛ فإن الله لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:٢] أي: ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٣] يعني: من حيث لا يؤمل ولا يرجو.
ومن الأدلة قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:٩٦]، أي: لو أنهم اتقوا لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب.
والبركات جمع بركة، والبركة هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والخير الإلهي الذي يجعله الله سبحانه وتعالى في الشيء يبقى فيه فلا يمحق ولا يذهب عنه، فيستفاد من كلمة البركة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم بسبب الإيمان والتقوى الخير المستمر الذي لا شر فيه ولا تبعة، وأحسن الأحوال أن يثبت النعيم الذي يرزقه الله سبحانه وتعالى العبد، ثم لا يجعل عليه تبعة في الآخرة، ولا يحاسبه عليه.
وقال تبارك وتعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦] ولم يقل: بركة، فيدل على تعدد هذه البركات باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة، وبركات السماء بالمطر، وبركات الأرض بالنبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما تحصل جميع المنافع والخيرات لخلق الله تعالى.
ومن الآيات التي تدل على أن التقوى من أسباب استنزال الرزق قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:٦٦]، فيخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم لو عملوا بالتوراة والإنجيل، وعملوا أيضاً بالقرآن الكريم؛ لأكثر الله تعالى بذلك الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض، ولأسبغ عليهم نعم الدنيا إسباغاً.
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:١٦]، يعني: لو استقاموا على الطريقة التي يرضاها الله لكافأهم على ذلك بأن يسقيهم ماءً غدقاً.
إذاً: التقوى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات، ومن شكر نعمة الله عز وجل بطاعته، فقد تكفل الله له بالزيادة، كما قال الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧].
فمن يرغب في سعة الرزق ورغد العيش فليحفظ نفسه عما يؤثم، وليمتثل أوامر الله تعالى، وليجتنب نواهيه.