للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة زواج الدكتور عبده وما صاحبها من أحداث]

نظر الطبيب الشاب فيمن حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد فإذا النصارى يحيطونه بنظرات الحقد والمرارة، وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر، فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء ولمزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية في السجون حتى يبتعد عن الناس، فالمسلمون يشكون فيه وينظرون إليه بحذر، والنصارى يؤذونه.

فبدأ حياته الوظيفية سنة (١٩٠٥م) طبيباً في بعض السجون بمديرية الجيزة، وتهيأ له -بعد ذلك- البعد عن مجتمعه السابق من جهة وقربه من القاهرة من جهة أخرى، فكان يقضي ساعات العمل بمكتبه في مستشفى السجن، وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته، وحول هذه الدار حديقة صغيرة.

وعاش حياة طيبة بين وعظ السجن وبين السجناء، وكان يتعايش معهم، لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه، فأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة، فإن رزقه الله بزوجة صالحه فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم.

ومن أجل إتمام هذا الأمر وكل أصحابه ليخطبوا له على أساس شروط معينة، فأخلفوا الشروط وظنوا أن الأمر سيمر، فأعلنوا الخطبة، وحدد موعد العقد والزفاف على أن يكون بعد أيام قليلة، فلما دخل الرجل لينظر إلى مخطوبته نفر منها جداً، وغضب وانصرف عنها، فكان هذا الأمر قاسياً على أسرة هذه الخطيبة، وبالتالي بدأت تنتشر الإشاعات الخطيرة جداً حوله كردّة فعل، ومعلوم ما في مجتمعاتنا من سهولة ثوران هذه الشائعات، فأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب! وهذه من العبر التي ينبغي تأملها، حيث يظهر لنا صدق الإيمان من رجل تحمل الأذى من جميع الأطراف، بما فيها المسلمون، حيث إن بعض المسلمين آذوه أذىً شديداً كما سيأتي.

وانتشر ما أشاعته هذه الأسرة من أن عبده كافر متلاعب، وأن له زوجة وأولاداً من دينه الأصلي، وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا ينبغي ذكره كما يزعمون، ولذلك رفضوه وطردوه، وتناقلت الأسر فيما بينها هذه القصص والشائعات، وكل من يسمعها يحكيها بأسلوب جديد غريب بعد أن يضيف إليها ما ينسبه إلى نفسه من أنه رأى وعاين وتأكد وكان أول من اكتشف ذلك بذكائه! إلى غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد القصة عجباً وإثارةً.

فاستفحلت المشكلة، وحصل لـ صدقي وعبده إساءة شديدة جداً لسمعتهما في الحي وفي المنطقة من الأهل والجيران، وتناهت الأخبار المشبوهة المزيفة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانهم، وكان من هؤلاء الشيوخ البارزين والرجال المعروفين الشيخ عبد الحميد مصطفى، وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم، فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء، واشتغل بمقاولات المباني فلقي في عمله توفيقاً، وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته والصدق في معاملته، وحسن عشرته للناس، وقد وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة، فاعتبرها عبثاً من شباب غير مسئول، وعدّها استهانةً من صدقي وصاحبه بكرامة أسرة محافظة تعرضت سمعة فتاتها للقيل والقال، وقد حصل الضرر بسببهما على الأطراف كلها، وأنه يجب أن يحاسب هذا المتلاعب وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها.

فأراد الشيخ أن يأخذ موعداً معهما لحل هذه المشكلة، فكان كلما حاول مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب من الشيخ، إلى أن تمكن الشيخ من مقابلة صدقي، فلم يبق له مفر من المواجهة والحساب، فأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلس فيه معه لتصفية الحساب.

ثم قال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما وأنت الآن طبيب مؤتمن على خصائص الناس، بل إنك ربما عرفت -بحكم تخصصك- من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ فأي جناية هذه يا بني؟ وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟! فما كان من صدقي إلا أن صبر على هذا حيث كان يحترم الشيخ لسنّه ولمكانته وصداقته لأسرته، ثم قال له: عفواً سيدي الشيخ، فهلا سمعت القصة كما وقعت فشهدت لي بالبراءة مما أثاروا حولي وحول زوجتي وحول صاحبي، وحسبي عقاباً لي على وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.

قال الشيخ عبد الحميد: أجل أسمع منك، على أن لا تقول غير الحق، ولا تنطق بغير الصدق، وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي، فلست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني.

قال: بل أصدقك القول يا عم، وكل ما أرجوه منك أن توسع لي صدرك حتى أتم حديثي، فنحن لم نجرب منك إلا العدل.

وشرح له القصة بالتفصيل الشديد.

ثم قال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم.

قال: وما كان اسمه قبل أن يعلن إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك.

قال: أفلا يتخذ له اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه إلى الإسلام؟ حيث إن العادة أن النصراني إذا أسلم يغير اسمه، ويختار اسماً واضحاً في دين الإسلام، وهذه نظرة من نظرات عبده الخاصة، وهو سر سيتضح فيما بعد حيث إنه أصر على اسم عبده ولم يوافق على تغيير هذا الاسم.

قال صدقي: لقد نصحه بعض المحبين له -وأنا منهم- أن يتخذ له اسماً شاهداً على إسلامه، فاعتذر لنا بأن الإيمان الحق إنما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال، فهو لا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات أو دعايات.

فقال له الشيخ: أريدك أن تأتيني بصديقك في الغد.

فلما أتاه به في موعد اللقاء حصل تعارف رائع أعقبته مقابلات كثيرة، وكان يدور الحوار بين الشيخ عبد الحميد وعبده إبراهيم في كل مرة، وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية، وكان الشيخ عبد الحميد في كل مرة يكتشف فيه صفات جديدة من الصفات الطيبة.

فزاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما، إلى أن كان الشيخ يثني عليه ثناء عطراً أمام صديقه صدقي هذا، وقد لفت نظر صدقي أمر معين، وهو ما يحيطه الشيخ بصديقه من المودة والمحبة، فقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته كواحد من أولاده، ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من المودة والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول.

فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة، وقال لصاحبه: ترى كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات التي تلمح إليها، فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله.

فقال: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك، ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على نحو ما أرى في لقاءاتنا الأخيرة فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن.

فقال له: ما أراك إلا قد جننت! أي أمل هذا الذي يراودك؟! وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر المصاهرة له؟! فانتهى الأمر إلى أنه تقدم خاطباً، فوافق الشيخ، وبدأت في حياته وحياة الشيخ صعاب ما كان لها حساب عندهما.

حيث أشاع الناس بأن القسيس الذي سحر من أسرة كذا -هي أسرة المخطوبة الأولى- قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعدٍ بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة في هذا الوقت هيبة عالية، ولكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر عنه من وعد بالقبول، فبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، فتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على حصول المناسبة أن عبده حضر منفرداً إلا من صاحبيه، ولم يحضر معه إلا صاحباه.

وكانت زوجة الشيخ -أم العروس- قد قاطعت العرس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم فيما قرره، ماضٍ فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يسقط هذه السقطة وهو من هو في رجحان العقل ونور البصيرة؟! لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده إبراهيم، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما، وكاد الناس أن ينسوا موضوع الزواج.