[بطلان القصة التي أوردها العيدروس بشأن كتاب إحياء علوم الدين]
بعض الناس يمارس أحياناً نوعاً من الإرهاب الفكري، وهذا يحصل من بعض الصوفية وأصحاب المنامات، فيمارسونه ضد من يكشف أخطاءهم ويبين ألاعيبهم، فترى في المنام أنه يخوفك إن أنت خالفته، ويهددك بأنه سيحصل لك كذا وكذا، وهذا النوع من الإرهاب لا يخيف إلا ذوي العقول الخفيفة، لكن الإنسان لا يبالي أبداً ما دام على الحق من الكتاب والسنة الذين هما المقياس الذي يحكم به على أي شيء، حتى لو كان مخالفه صاحب سلطة ونفوذ ما دام معه الكتاب والسنة.
وكتاب (إحياء علوم الدين) من الكتب التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة، وقد ارتبطت كثير من الأخطاء التي وجدت في هذا الكتاب بمراحل حياة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فقد مرّ الإمام الغزالي بمراحل ومحن نفسية كثيرة.
والإمام الغزالي -كما يشهد له كثير من العلماء- من الأذكياء النوادر في العالم بلا شك، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته، وكان على فقه عظيم جداً، وهو من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وله مؤلفات في أصول الفقه، ومؤلفات في العقيدة والأخلاق وغيرها، لكن ما اشتهر الإمام الغزالي بشيء من كتبه كما اشتهر بكتابه (إحياء علوم الدين) وليس المجال مجال التفصيل في حسنات هذا الكتاب، ولا مجال تفصيل في أخطائه أو أخطاره التي لو عششت في قلب أو عقل مؤمن ستقوده إلى كثير من الضلالات للأسف الشديد.
وهناك بعض الصوفية اختلقوا وكذبوا كذبةً، وجعلها الشيخ عبد القادر العيدروس بمثابة العصا التي يسميها عصا العيدروس، وهي العصا التي يخوف بها كل من يتكلم في كتاب (إحياء علوم الدين)! فأي شخص ينكر على الغزالي وعلى إحيائه شيئاً فإن العيدروس سيرفع هذه العصا مخوفاً إياه من عاقبة ذلك الفعل، وهذا في كتاب (تعريف الأحياء بفضائل الإحياء) للشيخ عبد القادر العيدروس.
وقد روى في هذا الكتاب قصة عجيبة، لكنها لا تستهوي من يتحرى الصدق، ويتحرى العلم وصحة الدليل وموافقة الكلام للكتاب والسنة، مهما رأى من التشويه والتهويل.
فيقول: ذكر اليافعي أن أبا الحسن بن حربهم الفقيه المشهور المغربي كان قد بالغ في الإنكار على كتاب إحياء علوم الدين، وكان مطاعاً مسموع الكلمة، فأمر بجمع ما ظفر به من نسخ الإحياء وهم بإحراقها في الجامع يوم الجمعة، فرأى ليلة تلك الجمعة كأنه دخل الجامع، فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والإمام الغزالي -رحمه الله- قائم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل ابن حربهم -الذي أراد إحراق كتاب الإحياء- قال الغزالي: هذا خصمي يا رسول الله، فإن كان الأمر كما زعم تبتُ إلى الله! وهل هذاك توبة تقبل بعد الموت؟! فالإمام الغزالي رحمه الله قد انتقل إلى الدار الآخرة، فكيف يتوب إلى الله وهو في دار الآخرة؟! قال: وإن كان حصل لي شيء من بركتك واتّباع سنتك فخذ لي من خصمي.
ثم إن الغزالي ناول النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الإحياء، فتصفحه النبي صلى الله عليه وسلم ورقة ورقة من أوله إلى آخره، ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن! ثم ناوله الصديق رضي الله عنه، فنظر فيه فاستجاده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن.
ثم ناوله الفاروق عمر رضي الله عنه، فنظر فيه وأثنى عليه كما فعل الصديق، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجريد الفقيه علي بن حربهم عن القميص، وأن يضرب ويحدّ حدّ المفتري، فخلعت ثيابه وضُرب على ظهره، فلما ضُرب خمسة أسواط شفع فيه الصديق رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله! لعله ظن فيه خلاف سنتك، فأخطأ في ظنه! فرضي الإمام الغزالي، وقبل شفاعة الصديق، ثم استيقظ ابن حربهم وأثر السياط في ظهره -أي: جُلد وهو نائم- فقام وأعلَمَ أصحابه، وتاب إلى الله من إنكاره على الإمام الغزالي واستغفر، ولكنه بقي مدة طويلة متألماً من أثر السياط! فهل صحيح ما حصل في قصة عصا العيدروس؟! وهل يعقل أن إماماً مثل الإمام علي بن حربهم الذي اتخذ موقفه بناءً على أدلة وعلى علم ثم يحدث له ما حدث؟! فأين العلم في مثل هذه الرؤيا المختلطة؟! فهل هذه تخوفنا كي لا نتعرض لكتاب الإحياء ولكي نقبل كل ما فيه مما يخالف الكتاب والسنة؟! وإن الإمام الغزالي رحمه الله -كما يقول بعض العلماء- قد حشى كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمختلقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا الشيخ الأستاذ عبد الرحمن دمشقية في كتابه: (أبو حامد الغزالي والتصوف) يقول: ألا قاتل الله ملفق هذه الفرية، ما أكذبه! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أم أن تعصبه الأعمى أغفله عن هذه الحقيقة التي أراد الله أن يجعلها علامة على كذبه؟! ألا فليتبوأنّ مقعده من النار هو وأمثاله ممن يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدين، فقد جاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم، وهو حديث متواتر.
والأمر الآخر الذي يشهد بكذبه أن الإحياء فيه من الأباطيل التي لا يقرّها ولا يقول بها أجهل الناس بالإسلام، فكيف يرضى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بهذه العجائب؟! ولو فرضنا -جدلاً- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الإحياء وقلّبه صفحة صفحة -حسبما يقول هذا المدّعي- فهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم فيه ما نقله الغزالي عن أبي تراب النخشبي إذ يقول: لئن رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة؟! وهذا موجود في الإحياء، الجزء الرابع، صفحة (٣٥٦).
وهل أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي يزيد لأحد أعيان بسطام: قولك سبحان الله شرك؛ لأنك سبحت نفسك فعظمتها وما عظمت ربك؟! ألم يطّلع صلى الله عليه وسلم في الإحياء على ما يقارب ستمائة حديث بين ضعيف وموضوع؟! ألم يقرأ قول الغزالي في آداب الخلوة: ويخلو بنفسه في زاوية، ويقتصر على الفرائض والرواتب، ولا يقرن همه بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسير، ولا يكتب حديثاً؟! ألم يقرأ قول الغزالي: القلوب وإن كانت محترقة بحب الله تعالى فإن البيت الشعري الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن؟! فهل البيت الشعري يؤثر في القلوب ويهيجها أكثر مما يفعل القرآن الكريم؟! وقول الغزالي -أيضاً- رحمه الله تعالى: اعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن لوجوه عديدة! ثم ذكر التفاصيل في موضع آخر.
ألم يقرأ قول الغزالي عن أصحاب مرتبة الصديقين بأنهم قوم رأوا الله سبحانه وحده، ثم رأوا الأشياء به، فلم يروا في الدارين غيره، ولا اطّلعوا في الوجود على سواه، وهذا هو النظر بعين التوحيد، وهو يعرّفك أنه الشاكر وأنه المشكور، وأنه المحب وأنه المحبوب، وهذا نظر من عرف أنه ليس في الوجود غيره، فهو الشاكر وهو المشكور! وهذا الكلام يقترب كثيراً من وحدة الوجود.
ألم يطّلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤيا المكذوبة على تقسيم الغزالي الناس إلى صنفين، حيث قال: الصنف الأول: وهم الأذكياء، الذين لا يطلبون الجنة، بل يحتقرونها، وإنما يطلبون مجالسة رب العزة دائماً، والصنف الثاني: وهم البُلْه -أي: السذج - الذين يتمتعون في الجنة بالنسوان والطعام الشراب كالبهائم، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! ألم يقرأ قوله: وما حكي من تفرق المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحق؟! ألم يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الغزالي: واستمع بقلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك؟! أيكون الغزالي معصوماً من كل زلّة ومنزّهاً عن كل ما اقترف، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كتابه ورقةً ورقةً فلا يجد فيها خطأً يسيراً أو ملاحظة صغيرة على الأقل؟! أهذا هو الإحياء الذي زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم تصفحه ورقة ورقة ثم قال: والله إن هذا لشيء حسن؟! وأن أبا بكر رضي الله عنه قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لشيء حسن؟! إن هذه الرواية المختلقة لم تكن إلا بمثابة تخويف وتهديد لكل من يهم بإنكار هذه الأباطيل الواردة في كتاب الإحياء، فلا يخافن أحد من هذه الأساطير الصوفية، ولا يترددن في إنكار أي شيء باطل يراه، فإن إنكار المنكر هو ركيزة هذا الدين، وما تركه قوم إلا استحقوا غضب الله وعقابه، والصوفية أوهموا الناس عكس ذلك، فإذا أنكر أحد هذه المنكرات الموجودة في مثل هذا الكتاب خوفوه بمثل هذه الأكاذيب، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:١١٠]، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:٧١]، وقد ترك بنو إسرائيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاستحقوا اللعن على ألسنة أنبيائهم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَو