[تعريف الغيبة]
بين النبي صلى الله عليه وسلم حد الغيبة المحرمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) أخرجه مسلم وغيره.
وهنا وضع النبي صلى الله عليه وسلم حداً فاصلاً للغيبة: (هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، وهذه عادة الصحابة في تأدبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذكرك أخاك بما يكره)، وذكرك أخاك المسلم بما يكره، إما أن يكون باللسان، أو ما يقوم مقام اللسان، كحركة العين فيغمز بعينه، ويشير بيديه، ويكتب بقلمه، ويخرج لسانه، فأي شيء يقوم مقام اللسان في الغيبة فهو يدخل في قوله: (ذكرك أخاك بما يكره).
قوله: (قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟) يعني: استوضح بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هل من الغيبة أنني أذكر أخي بشيء يكرهه، ولا أفتري عليه، إنما هو شيء فيه؟ وهذا لا يزال يقال حتى اليوم، رغم أن هذا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً وضحه النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا لا نزال نجد من الناس من يذكر نفس هذه الشبهة، فيقول: هذا شيء موجود فيه، وأنا لا أفتري عليه، أو يقول: أنا مستعد أن أواجهه بهذا؛ ليدفع عن نفسه صفة المغتاب.
إذا كنت ستواجهه بهذا ستنتقل من وزر الغيبة إلى وزر أذية أخيك المسلم؛ لأنك سوف تواجهه بما يؤذيه، فلم تخرج أيضاً من الأذية، فالفارق أن هذه أذية في غيبته، وهذه أذية في مواجهته، وكلها أذية، فقول بعض الناس الذين يلبس عليهم الشيطان في هذا الأمر: أنا مستعد أن أواجهه بهذا! أنا مستعد أن أقول هذا أمامه! نقول: هذه غيبة في غيبته، أما في حضوره فهذه أذية للمسلم حينما تذكره بما يكره.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذكرك أخاك بما يكره قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) يعني: إن كنت تذكره من وراء ظهره بشيء ليس فيه فهذا بهتان أشد من الغيبة؛ لأنه كذب وافتراء.
وروي (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: ما الغيبة؟ قال: أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع)، وفي بعض الألفاظ: (الغيبة: أن يذكر الرجل بما فيه من خلقه)، وفي بعض الروايات: (ما كنا نظن أن الغيبة إلا أن يذكره بما ليس فيه، قال: ذلك من البهتان).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا: لا يأكل حتى يطعم، ولا يرحل حتى يرحل له) يعني: أنه لا يعتمد على نفسه، فوصفوه بالكسل أو بالضعف، حتى إنه لا يتولى أمور نفسه وإنما يتولاها له غيره، وإذا أراد أن يركب الجمل أو الدابة فإنه لا يضع الرحل والأشياء التي يركب عليها، وإنما لابد أن يخدمه الآخرون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم فوراً لما سمعهم يقولون ذلك: (اغتبتموه، فقالوا: يا رسول الله! حدثنا بما فيه -أي: ذكرناه بشيء هو فيه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه) يعني: يكفيك من الإثم والوزر أن تذكره بما فيه - مما يكرهه.
قال الراغب: الغيبة أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك، يعني: بدون سبب يحوجه إلى أن يذكر ذلك؛ لأن هناك حالات يجوز فيها أن يذكر الإنسان بما فيه.
وقال ابن الأثير: الغيبة: أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى تبعاً للغزالي: الغيبة ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلقه أو خُلقه أو ماله أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.
فكلما يمس المسلم وعرضه فإنه يدخل في حد الغيبة، أن تذكره بما يكرهه، ليس فقط في نفسه، وإنما في أي شيء يختص به في شكله بدنه دينه دنياه خُلقه ملابسه طريقة كلامه طريقة مشيته أولاده زوجته بيته دابته سيارته ثيابه حركته عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق بالشخص، فالتعرض بذكره سواء باللفظ الصريح أو بالإشارة أو بالرمز كله من الغيبة؛ لأن هذا انتهاك لعرض المسلم، والعرض لفظ أوسع بكثير مما يظن بعض الناس؛ لأن بعض الناس يتصور أن العرض هو ما يتعلق بالتعفف عن الفواحش كالزنا ونحو ذلك، لا، العرض هو كل موضع قابل للذم أو المدح في الإنسان، فأي شيء فيك يقبل المدح والذم فهو عرضك، مثل الأمثلة التي ذكرناها.
وتحريم النيل من عرض المسلم أصل شرعي متين معلوم بالضرورة من دين الإسلام، وحفظ العرض أحد الضروريات الخمس التي شرعت من أجلها الشرائع، فمن مقاصد الشريعة العليا حفظ العرض، وقد خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مجمع يزيد على مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع، فقال في هذه الخطبة: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!) والأعراض: جمع عرض، وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يكون من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب.