[الأقوال في أرجى آية في القرآن]
ما هي أرجى آية في القرآن؟ اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً، فالمشهور أن أرجى آية في القرآن هي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وقال جماعة من العلماء: أرجى آية في القرآن قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣]، والذين ذهبوا إلى أن هذه الآية هي أرجى آية لعصاة المؤمنين استدلوا بما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن ناساً من المشركين قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [الفرقان:٦٨] إلى قوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:٧٠]، ونزل أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]) وروى الطبراني بإسناد ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه يدعوه إلى الإسلام، فقال: كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل أو زنى أو أشرك يلق أثاماً، ويضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً، وأنا صنعت ذلك؟! فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠] إلى آخر الآية، فقال وحشي: هذا شرط شديد، (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً) فلعلي لا أقدر على هذا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فقال وحشي: هذا أرى بعده مشيئة، فما أدري أيغفر لي أم لا؟ فهل غير هذا؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣] قال وحشي: هذا نعم فأسلم) والحديث في إسناده ضعف.
وفي قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا) مما يؤكد الرجاء ويقويه إضافة العباد إلى الله سبحانه وتعالى: (قل يا عبادي) وذلك جبراً لانكسارهم، وتسريعاً لهم للمبادرة بالتوبة.
وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الأولى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠] والآية الثانية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:٣١] الثالثة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:٤٨] الرابعة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:٦٤]).
وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إلي من الدنيا جميعاً وذكر فيهن: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:١١٠] بدل الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:٦٤])، الخامسة: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:١١٠].
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت فقال: أولهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:٢٦] والثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:٢٧]، والثالثة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:٢٨]، ثم ذكر مثل قول ابن مسعود في الآيات الخمس سواء بسواء).
وقال علي رضي الله تعالى عنه: (أرجى آية في كتاب الله قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] ثم قال: وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه؟!)، وورد عنه أنه قال: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله -يعني بالنسبة للعصاة- حدثني بها النبي صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]) قوله: (ما أصابكم) أي: من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا (فبما كسبت أيديكم)، أي: هذه عقوبتكم في الدنيا، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وقد عاقبكم بها في الدنيا، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه، فهذا هو وجه اختيار علي رضي الله عنه لهذه الآية على أنها أرجى آية في القرآن.
وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى في آخر سورة الأحقاف: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:٣٥] وقرئ: (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) والمقصود بقوله: (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) الآية اقتصرت في الإهلاك بالعذاب على الكفار؛ فأطمعت المسلمين في رحمة الله تبارك وتعالى، ومثلها أيضاً قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:١٧] وفي قراءة أخرى: (وهل يجازى إلا الكفور).
وقيل أيضاً: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:٤٨].
وقيل: إن أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:٨٤].