ومن هذا الحديث ندلف إلى موضوعنا، وهو الحديث عن حقوق المسلم، وصيانة عرضه، والتحذير من الغيبة ومن إطلاق اللسان في أعراض المسلمين بغير حق، ونحن لا نستوفي حقوق المسلم على المسلم، وإنما نقتصر -فقط- على التنبيه فيما يشيع التقصير فيه بين الناس في مثل هذا الزمان، فهذا الحديث الشريف يبين لنا كيف عظَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدب، حتى إنه عبر عمن لا يراعي الأدب، سواء أكان أدب الكبير مع الصغير في الرفق أم أدب الصغير مع الكبير بالاحترام والتوقير، أم أدب طالب العلم مع شيخه في أن يراعي حق هذا الشيخ عليه، فكل من لم يراع هذه الآداب فإنه متوعد بهذا التعبير الشديد الهول، وهو قوله:(ليس منا).
وقد اهتم السلف الصالح رحمهم الله تعالى بباب الأدب اهتماماً عظيماً، ليس بمجرد التصديق، وإنما أيضاً بسلوكهم وواقعهم، كما سنذكر إن شاء الله تعالى.
فالأدب اهتم به علماء المسلمين، حتى إنهم أفردوا فيه كتباً، ولا تكاد تجد كتاباً من الكتب الجوامع في السنة إلا وتجد كتاب الأدب جزءاً أساسياً من أبوابه ومن أغراضه ومقاصده، فهناك (كتاب الأدب) في صحيح البخاري، ومع ذلك الإمام البخاري أفرغ الأدب بكتاب آخر، وهو كتاب (الأدب المفرد)، وكذلك مَحضَّ بعض المصنفين بعض مصنفاتهم فقط للأدب، كما فعل السفاريني في كتابه المرسوم بـ (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) أو بـ (شرح منظومة الآداب)، وكما فعل الإمام ابن مفلح رحمه الله تعالى الذي كان يقول له شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنك لست ابن مفلح، وإنما أنت مفلح.
وهو صاحب كتاب (الآداب الشرعية) بخلاف ما صنف من الكتب في الآداب واقتصر مؤلفه على جزء في باب واحد من أبواب الأدب، وذلك مجرد عبور على أبواب الأدب الغالبة المنتشرة في مصنفات علماء المسلمين، وبهذا نجد خطورة مجال الأدب وخطورة هذا الحقل من حقول الأخلاق الإسلامية، ونجد هناك كلاماً في الأدب على النية وآداب النية، والأدب مع الله سبحانه وتعالى، والأدب مع القرآن الكريم، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدب مع الملائكة، والأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والأدب مع النفس بالتوبة والمراقبة والمحاسبة والمجاهدة، والأدب مع الخلق باختلاف أنواع هؤلاء الخلق، والأدب مع الوالدين، والأدب مع الأولاد، والأدب مع الإخوة، والأدب فيما بين الزوجين، والأدب مع الأقارب، والأدب مع الجيران، والأدب مع أخيك المسلم، حتى الأدب مع الكافر أفردوه بالكلام، وذكروا الآداب الشرعية التي ينبغي أن يلتزمها المسلم مع الكافر، بل تكلموا حتى في الأدب مع الحيوان ومع البهائم.
وفي الكلام على حقوق الأخوة والأدب مع الإخوان في الله ذكروا آداب المجالس، وآداب الأكل والشرب، وآداب الضيافة، وآداب الاستئذان، وآداب السفر، وآداب اللباس، وخصال الفطرة، وآداب النوم، وآداب المسجد، وآداب حلق العلم، والأدب مع المشايخ، والأدب مع حاملي القرآن، والأدب مع كبير السن، وغير ذلك.
وربما يتصور بعض الناس أن الآداب فقط هي أشياء من باب المروءة أو أشياء مستحبة ونوافل، وهذا ليس بصحيح، بل من الآداب ما هو فرض متحتم وواجب أكيد على كل مسلم، كما سنبين إن شاء الله تعالى.