[أدلة المانعين من القيام للقادم]
ثم ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى الباب الثاني في الأحاديث التي يستدل بها على النهي عن القيام وما أجاب به عنها أهل المعرفة والحذق والأفهام.
ثم روى حديث أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، وهذا الحديث صحيح.
الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) وهو حديث ضعيف.
ثم أجاب الإمام النووي رحمه الله عن هذه الأحاديث فقال: أما الجواب عن الحديث الأول -وهو أقرب ما يحتج به- فمن وجهين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث الآخر: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)، فقوله هذا من نفس هذا الباب؛ لسد الافتتان به والغلو في تعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامهم له لهذا المعنى، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام صلى الله عليه وسلم لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، ولم ينكر ذلك، بل أقره، وأمر به في حديث القيام لـ سعد.
يقول: وقد قدمنا في الباب الأول بيان هذا كله، وهذا جواب واضح لا يرتاب فيه إلا جاهلٌ أو معاند.
الوجه الثاني في الجواب عن هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينه وبين أصحابه رضي الله عنهم من الأنس وكمال الود والصفا ما لا تحتمل زيادته بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، بخلاف غيره، فإن فرض صاحبٌ للإنسان قريبٌ من هذه الحالة فلا حاجة إلى القيام.
أما الحديث الثاني -وهو قوله: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، يعني: فليجلس على مقعده من النار- فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به، والجواب عنه من أوجه، والأصح والأولى والأحسن، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه: أنه ليس فيه دلالة؛ وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه: الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب تمثل الناس قياماً له، وليس فيه تعرض للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه.
يعني: يحرم على الإنسان أن يحب قيام الناس له، فالإمام النووي يقول: هذا ليس فيه دلالة على المسألة التي نتكلم فيها؛ فالكلام ليس على حب القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فهذا حرام، لكن الكلام في القائم نفسه، فهل في هذا الحديث وعيد له أم لا؟ فمذهب الإمام النووي أنه ليس هناك تعرضٌ لحال الذي يقوم، وإنما فيه تعرض لتحريم محبة القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فالمنهي عنه هو محبته للقيام.
يقول: وليس فيه تعرضٌ للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أنه لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته القيام، ولا يشترط كراهيته لذلك، وخطور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر ذلك بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه، وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرم، فإذا أحب ذلك فقد ارتكب التحريم، سواءً قيم له أو لم يقم له.
يعني: لو أن رجلاً يحب أن يقوم الناس له -وهذا عمل قلبي-، وهم لم يقوموا له؛ فهو يأثم، حتى لو لم يقوموا له.
قال: فمدار التحريم على المحبة، ولا تأثير لقيام القائم، ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث.
فإن قال من لا تحقيق عنده: إن قيام القائم سببٌ لوقوع هذا في المنهي عنه، قلنا: هذا سؤال فاسدٌ لا يستحق سائله جواباً؛ فإن تبرع عليه قيل ما قدمناه: إن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة فحسب.
الجواب الثاني: أنه حديث مضطرب، والاضطراب يوجب ضعف الحديث، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الإمام النووي رحمه الله.
ثم ذكر عن بعض الأئمة أنهم قالوا: إنما كره القيام على طريق الكبر، فأما على طريق المودة فلا، فكل من أحب أن تقوم له فلا تقم له.
أي: إذا علمت أنه يحب أن تقوم له فلا تقم له، وأظن أن من هذا -والله أعلم- ما يحصل في المدارس؛ حيث إن المدرس يحب أن يقوم التلاميذ له.
قال: من يغلظ على من لا يقوم، مخالف لسمت السلف، وهذا دليل على أنه يحب القيام له، حيث يغضب على من لا يقوم له، فالخوف عليه أكثر؛ لأنه وقع في الوعيد بما لا يحتمل التأويل؛ لأنه أحب أن يتمثل الناس له قياماً، فهذه من الكبائر القلبية.
وبعض العلماء قالوا: إن هذا الوعيد فيمن يأمرهم بذلك ويلزمهم إياه على طريق النخوة والكبر.
وأما أبو موسى فقال: معنى الحديث: أن يقوم الرجال على رأسه، كما يقام بين يدي الملوك.
أما الحديث الثالث -وهو: (لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً) - فهو ضعيف لا يصح الاحتجاج به، والوجه الثاني أنه على سبيل التعظيم، فهذا هو المذموم.
أي: إذا كان على سبيل النخوة والكبر والتعظيم.
أما حديث أبي بكرة -وهو: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه) - فأيضاً ضعيف، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تقم من مجلس صلاة وسماع الوعظ والتذكير والعلم ونحو ذلك، على سبيل الإيثار فيما لا إيثار فيه، فلا يقوم الرجل للرجل من مجلسه إذا كان في مجلس علم، ولا يضح بموقعه الأحسن ويؤثر غيره به، فلا ينبغي الإيثار في هذا الموضع، وهذا التأويل ذكره بعض العلماء، وهكذا ما أشبه هذا من القربات التي يكره الإيثار فيها، فمن القصور أن تقام الصلاة وهناك مكان فارغ في الصف المقدم فيقول الإنسان لأخيه: تفضل، فيقول: تفضل أنت! هذا جهل، بل ينبغي أن يتسابقا في أعمال الآخرة التي فيها تنافس، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].
أما حديث: (ولا تنافسوا) فهذا في الدنيا، أما في الآخرة فكان الصحابة يبتدرون السواري إذا أذن المأذن، وكانوا إذا أقيمت الصلاة يتسارعون إلى الصفوف الأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام رغبهم في هذا، وبين أنهم يستهمون إذا حصل النزاع على الأذان والصف الأول، فيقترعون على ذلك أيهم أولى، وهكذا الدور في التسميع على الشيخ لا ينبغي الإيثار فيه، فإذا جاء دور الطالب وآثر غيره به، فهذا من الزهد في الخير، فينبغي أن يحرص الإنسان أن يكون مقدماً في مجالس العلم ومجالس الفضل، والإيثار يكون في الطعام والشراب وحظوظ النفس ومتاع الدنيا، فيهدي إخوانه، ويؤثر على نفسه، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩]، فهو محتاج إلى الطعام ويتصدق، ومحتاج إلى الملابس ويعطي ولا يلبس هو، فهذا الإيثار محمود في أمر الدنيا، وحظوظ النفس، أما أمور الدين ومعالي الأمور فلا.
كان بعض الصحابة إذا كانوا اثنين يجلس واحد منهما في البيت والآخر يجاهد، ويقول الابن لأبيه: يا أبت! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي! فهكذا ينبغي أن نكون، فالحق في التقرب لله تعالى لا يجوز تفويته، بخلاف الطعام ونحوه؛ فإن الحق فيه للنفس، وإن كان لله تعالى فيه حقٌ في بعض المواطن فنفعه ومقصوده يعود إلى الآدمي، وقد أوضحت هذا الفرق بشواهده وما يرد عليه من أكل الميت عند المخمصة، وجوابه في باب التيمم من شرح المهذب، وهذا القدر هنا كافٍ، والله أعلم.
ثم أنهى الإمام النووي الكتاب بقوله: نختم الباب ببيتين على عادة الأئمة والحفاظ: قيامي والعزيز إليك حقٌ وترك الحق ما لا يستقيم فهل أحدٌ له عقلٌ ولبٌ ومعرفةٌ يراك ولا يقوم هذا ما تيسر من تلخيص كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى.