[الشرط الأول: الاستنجاء بالأحجار وما في معناها]
يقول الشارح رحمه الله: [والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر].
قوله: (وما في معناهما) أي: ما يشبه الحجر؛ وذلك بأن يكون منقياً مطهراً.
قال: [وفي حديث سلمان عند مسلم: (نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم)].
الرجيع هو الروث، ولا يجوز الاستنجاء به لكونه نجساً، وأما العظم فلأنه زاد إخواننا من الجن.
قال: [فتخصيصها بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها].
أي: لأنه خص من الأجسام الصلبة الرجيع أو العظم.
قال المؤلف: (فالإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء) أي: الاستنجاء بالأحجار لا تزيل العين والأثر، إنما تزيل العين فقط وتبقي أثراً معفواً عنه؛ لعموم البلوى به، ولمشقة الاحتراز منه.
وإذا استجمر أحد بالأحجار مع وجود الماء فلا بأس، وإن كانت الأحجار تزيل العين ويبقى الأثر، فإذا توضأ بعد ذلك فوضوءه وطهارته صحيحة.
قال في الشرح: [إن الإنقاء بالحجر ونحوه أن يبقى أثر لا يزيله إلا الماء.
بأن تزول النجاسة وبلتها، فيخرج آخرها نقياً لا أثر به] يعني: يخرج آخر الأحجار نقياً لا أثر به.
أما ما ذكر العلماء في شرط ما يستنجى به فيقول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في المغني: والخشب والخرق وكل ما أنقي به فهو كالأحجار، هذا الصحيح من المذهب -الحنبلي-، وهو قول أكثر أهل العلم، وفي الرواية الأخرى: لا يجزئ إلا الأحجار، اختارها أبو بكر، وهو مذهب داود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار، وأمره بالأحجار يقتضي الوجوب، فقالوا: لابد من الأحجار، لكن الصحيح من مذهب داود أنه يجزئ الاستنجاء والاستجمار بالأحجار أو ما قام مقامها.
إذاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) أخذ منه بعض الأئمة -ومنهم داود بن علي - عدم جواز الاستجمار بغير الأحجار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بالأحجار، فحينئذٍ يجب أن يقتصر على الأحجار، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا فيه رخصة، والرخصة أتت بصورة مخصوصة، فيجب الاقتصار عليها فقط كما يقتصر على التراب في التيمم.
وأجاب العلماء عن ذلك فقالوا: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وليستنج بثلاثة أحجار) وشبهه من الأحاديث، إنما نص على الأحجار؛ لأن الأحجار هي غالب الموجود للمستنجي بالفضاء، ولأن أسهل شيء يستطيع أن يحصل عليه في ذلك المكان هو هذه الأحجار، فإنه لا مشقة فيها ولا كلفة في تحصيلها، فالنص على الأحجار إنما خرج مخرج الغالب، وهذا مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:١٥١] فهذا القيد لا مفهوم له، فهل يجوز أن يستدل بهذه الآية على أنه يجوز قتل الأولاد لسبب آخر غير الإملاق الذي هو الفقر؟! لا يجوز، لكن لما كان السبب الغالب الذي كان يدعو بعض العرب في الجاهلية إلى قتل الأولاد هو الفقر نص عليه.
كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:١٣٠] فغالب الربا يكون أضعافاً مضاعفة، فلذلك نص عليه، فهل يصح أن يستدل بهذه الآية -كما فعل بعض الذين في قلوبهم مرض- على جواز الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة؟! كلا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:١٠١] هل هذا فقط في حالة الخوف أم أن هذه رخصة عامة في أي سفر يقصر الإنسان فيه الصلاة؟ هي رخصة عامة، وقيد الخوف لا مفهوم له؛ لكونه خرج مخرج الغالب، وهكذا نص على الأحجار لهذه العلة.
استدل الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى على أن كل ما يشبه الأحجار ويقوم مقامها له حكمها في جواز الاستجمار به بقوله: ولنا ما روى أبو داود عن حذيفة قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) فلولا أنه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن منها الرجيع، ولم يكن تخصيص الرجيع بالذكر له معنى.
وفي حديث سلمان رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستجمر برجيع أو عظم) رواه مسلم.
فتخصيص النهي بالرجيع -وهو الروث- والعظم يدل على أنه أراد الحجارة أو ما قام مقامها.
وروى طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله ولا يستقبلها ولا يستدبرها، وليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب) رواه الدارقطني.
وقد روي عن ابن عباس مرفوعاً والصحيح أنه مرسل، ورواه سعيد في سننه موقوفاً على طاوس.
يقول الإمام البيهقي: الصحيح أن هذا من كلام طاوس وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأيضاً ذكر البيهقي أن نفس هذا الحديث روي عن سراقة بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضعيف أيضاً.
قال البيهقي: وأصح ما روي في هذا ما رواه يسار بن نمير قال: (كان عمر رضي الله عنه إذا بال قال: ناولني شيئاً أستنجي به، فأناوله العود والحجر، أو يأتي حائطاً يتمسح به أو يمسه الأرض ولم يكن يغسله) أي: يجزئ الحجر وما في معنى الحجر، لكن التراب الرخو ليس فيه معنى الحجر، ولا يقوم مقام الحجر المأمور به، لكن إذا كان تراباً مستحجراً متماسكاً متضاماً يشبه الحجارة، وأمكن الإزالة به والإنقاء؛ فيكون حكمه حكم الحجر، فإن كان رخواً لا تمكن الإزالة به لم يجزئ؛ لأنه يعلق بالمحل.
ثم قال الإمام ابن قدامة مبيناً صحة الاستنجاء بالأحجار أو ما في معناها: ولأنه متى ورد النص بشيء لمعنى معقول وجب تعديته إلى ما وجد فيه المعنى.
أي: متى ورد النص بشيء في معنى معقول نستطيع أن ندركه بأنفسنا وجب أن يتعدى هذا الحكم إلى ما وجد فيه نفس هذا المعنى، وهو ما يسمى بالقيد، والمعنى المعقول ها هنا أن تزال عين النجاسة، وهذا يحصل بغير الأحجار، وبهذا يخرج التيمم فلا يصح القياس على التيمم؛ لأن التيمم غير معقول المعنى، فإن التيمم رخصة غير معقولة المعنى.