[بيان الحسد الممدوح]
القسم الثاني من أنواع الحسد: الحسد الشرعي المحمود، وكما قلنا: إن الحسد مذموم ومحمود، فالمذموم: حسد على نعمة حاصلة، أو على نعمة متوقعة، والحسد الشرعي المحمود هو ما يسمى أحياناً بالمنافسة في الخيرات أو ما يسمى بالغبطة، وهي: أن تتمنى أن يكون لك مثل حال هذا الشخص الذي تحسده من غير أن تزول النعمة عنه.
فمن رأى الخير في أخيه، وتمنى التوفيق لمثله، أو الظفر بحاله، وهو غير مريد لزوال ما فيه أخوه من النعمة، فليس هذا بالحسد الذي ذُم ونهي عنه، وإنما هذا يسمى حسد الغبطة، وهذا قريب من المنافسة، وقد قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين) يعني: لا حسد مشروع أو لا حسد مباح إلا في اثنتين (رجل أعطاه الله المال فسلطه على هلكته في الحق) أي: أنه ينفق ويتصدق بماله في أبواب الخير.
ثم قال: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس).
وترجم عليه الإمام البخاري رحمه الله تعالى بقوله: باب الاغتباط في العلم والحكمة.
فهذا حسد غبطة، والحامل لصاحبه عليه أن له نفساً كبيرة، وهمة عالية، وعنده حب اكتساب الخير، وحرصاً على التشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأن يكون من سباقهم وعليتهم، فتحدث له من هذه الهمة العالية المنافسة والمصادقة، والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، فيحب هذا الرجل الغني المتصدق، ويحب ذلك الرجل العالم الذي يعلِّم الخير، فيتمنى له أيضاً دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل بوجه من الوجوه في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:٥] لأن فعله هذا لا تعلق له بالشر بوجه من الوجوه، فقد تسمى المنافسة حسداً، والحسد منافسة، فيدعى أحد اللفظين نيابة عن الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني.
عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل بعلمه في ماله، ورجل آتاه الله علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً، ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان، لكنت أنفقه في مثل ما أنفقه فيه من المعاصي، فهما في الوزر سواء).
رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فهذه المنافسة التي هي الغبطة أو الحسد الممدوح أو المشروع هي كما ذكرنا: إرادة مساواة المنعم عليه، واللحوق به في هذه النعمة بدون تمني زوالها عنه، فهي على ثلاثة أنحاء: واجبة، ومستحبة، ومباحة، أما المنافسة الواجبة فهي فيما إذا كانت النعمة ذات نية واجبة، كالإيمان، والصلاة، والزكاة، أو كان هناك رجل فقير رأى رجلاً قد أنعم الله عليه وأعانه مثلاً على فريضة الحج، فهو يغبطه على هذه الفريضة، أو أن يحرص الشخص على أن يحصل مالاً يستطيع به أداء هذه الفريضة، فهذه غبطة ومنافسة في فعل واجب، فيزيد هذا الشعور محبة المؤمن أن يبلغ هذا العمل؛ وما أعان على واجب فهو واجب، فعلى كل مسلم أن ينوي بقلبه أنه إن توفرت له هذه الاستطاعة أن يعمل بها، فهذه النعمة إذا كانت دينية واجبة -كالإيمان والصلاة والزكاة وغير ذلك- فالمنافسة فيها واجبة.
وقد تكون الغبطة مستحبة إذا كانت النعمة من القربات، كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات.
وقد تكون الغبطة مباحة إذا كانت النعمة يتنعم بها على وجه مباح، فأي نعمة من المباحات تتمنى مثلها بدون أن تتمنى زوالها هذه أيضاً منافسة مباحة.
وإذا أنعم الله سبحانه وتعالى على عبد بنعمة فإن تحت هذه النعمة أمران: الأمر الأول: راحة المنعم عليه، أي: أن المنعم عليه يستريح بهذه النعمة.
الأمر الثاني: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه، فالمنافس هنا في هذه الحالة يكره أحد هذين الوجهين، وهو تخلف نفسه، ويحب مساواته له، لكن إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة، وهو يكره أن يتخلف عنها ويكره نقصانه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان.
فالنعمة إذا حضرت فإنه يستريح بها المنعم عليه، ويظهر نقصان أو حرمان الذي لم ينعم عليه، فالمنافس هنا يكره راحة أخيه المؤمن، لكن يكره أن يكون متخلفاً منافساً في هذه النعمة، لكن إذا أيس من حصول مثل تلك النعمة مادام يكره نقصانه وتخلفه فلا محالة أنه يحب زوال هذا النقصان، فإذا رأى هذا النقصان وتمنى زوال نعمة المحسود، حتى يحصل التساوي بينهما، وحتى ينزل أخوه إلى مساواته، إلى أن يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة فهذا الشعور أو هذا التصرف أو هذا التمني لا رخصة فيه أصلاً، فهذه هي المنافسة المحرمة، بل هذا حرام في مقاصد الدين، أو في مقاصد الدنيا.
لكن صاحبه إذا لم يعمل بذلك تكون كرامته كونه يكره حصول هذه الصفة منه، ومجاهدته نفسه في دفع ذلك الشعور يكون هذا كفارة له، وأفضل الجهاد مجاهدة العبد نفسه وهواه.