[مخاطر التلفاز]
إن بعض الناس غابت عنهم مخاطر هذا الجهاز ومساوئه، وبعضهم اعترفوا بالسلبيات، لكن نظروا إليها بمنظار مصغر عن حقيقتها فحقروها، فمن أجل ذلك كانت هذه الوقفة الصادقة مع النفس، نراجعها ونقلب أبصارنا وبصائرنا في محاسن هذا الجهاز وفي مساوئه؛ لأننا إذا فعلنا سنقرر بالفعل أن للفيديو والتلفاز وغيرهما نفعاً ما، ولكننا فوراً نتذكر قوله تعالى في شقيقيهما الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:٢١٩] فهذه المنافع المزعومة ضخمت وأريد لها الظهور فروج لها، وأخفيت المثالب على خطورتها وكثرتها فلا تكاد تذكر.
فهذا الموضوع سنتناوله إن شاء الله ولن نفصل فيه، بل نحاول أن لا نضيع الوقت في ذكر المزايا؛ لأن المزايا يدركها كل الناس، ويتعاملون مع الجهاز تعاملا ًمباشراً، فليس الجهاز في حاجة إلى زيادة تلميع أو ترغيب، إنما هدفنا كشف ما فيه من المخاطر، لعل الله سبحانه وتعالى ينبه الغافلين، ومن باب قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥].
ثم إن من يريد أن يعالج مثل هذا الداء ينبغي عليه أن يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:٩] فإنه بين في آية أخرى أن الذكرى إنما تنفع المؤمنين.
فأول ما نذكر به المؤمنين آية من كتاب ربنا العظيم لو فقهت معناها قلوبنا لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله، وإذا استيقظت ضمائرنا فلعل قشعريرة الرهبة تسري في أوصالنا ورعشة الهيبة تهز أعماقنا، إنها قول ربنا جل وعز: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦] هذا هو أول ما نصدر به هذه التذكرة وهذه الذكرى، فإذا تخيلت أن نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة القلب سوف تسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى فيم استعملتها فما جوابك؟! ومعلوم أن شكر النعم يكون بثلاثة أشياء: بالاعتراف بها باطناً، وبالتحدث بها ظاهراً، وبتسليطها في طاعة ومرضاة مسديها والمنعم بها الله سبحانه وتعالى، هذا هو شكر النعمة.
وإذا سألنا أنفسنا عن كل الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من العصاة والفاسقين فما هي الآلات التي يستعملونها في المعصية؟! ما هي إلا نعم الله سبحانه وتعالى، فأعظم بحلم الله عز وجل! يعطينا هذه النعم ثم نحاربه بها ولا يعجل لنا العقوبة.
تخيل لو كان عندك عامل أو خادم كلما أمرته بشيء عصاك، ويستعمل ما أنعمت عليه في أذيتك وفي محاربتك ومبارزتك بالمخالفة، فماذا ستفعل به؟ هل تطيق أن تتحمله أو أنك ستطرده من العمل فوراً؟! تأمل هذا الكم من العصاة، وهذا الكم من المسرفين على أنفسهم، وتأمل -أيضاً- حلم الله سبحانه وتعالى الذي لا يعاجلهم العقوبة عسى أن يتوبوا وعسى أن يستعتبوا، والله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا المعنى فقال عز وجل في الحديث القدسي: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما الذي يقول: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما الذي يقول: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فهذا نسب النعمة إلى غير معطيها، وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:٨٢] يعني: نحن نرزقكم النعم ونفيض عليكم الرزق والعطايا، ثم أنتم تجعلون شكر هذا الرزق أنكم تكذبون رسولي عليه الصلاة والسلام إذ أرسلته إليكم.
وقد عبر بعض الشعراء عن هذا المعنى بقوله: أنالك رزقه لتقوم فيه بطاعته وتشكر بعض حقه فلم تشكر لنعمته ولكن قويت على معاصيه برزقه إذاً: نتأمل هذا الجهاز التي يستعمل فيه أساساً نعمة السمع والبصر والفؤاد، فإذا نظرنا إلى واقع المسلمين فستجد أنهم ينظرون إلى هذه المناظر المنحرفة المخزية.
فنقول للواحد منهم: لو أن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق بابك وأنت جالس أمام الفيلم أو أمام المسرحية أو الأغنية هل سيفرح بك وبانتمائك لأمته، أم أنك تشعر بالعار وبالخزي وتحاول أن تستر المصيبة التي تجهر بها ولا تبالي بها؟! ألا يقدر الله سبحانه وتعالى على أن يخطف أبصار هؤلاء الذين ينظرون إلى ما حرم الله ويرتكبون معصية زنا العين كما قال عليه الصلاة والسلام؟! هل يأمنون نزول عذاب الله سبحانه وتعالى بهم بياتاً أو هم قائلون في حال غفلتهم؟! نعود إلى الآية الكريمة (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فما ألصق هذه الآية بموضوعنا؛ لأن النعمة التي تستعمل في التعامل مع هذا الجهاز هي السمع والبصر.
وفي الحقيقة أن التلفاز هو أخطر جهاز إعلامي؛ لأنه يخاطب العين والأذن والقلب، يخاطب بالصوت وبالصورة وبالحركة، وبعض الناس يقولون: الإنسان يحصل على المعلومات عن طريق النظر بنسبة (٩٠%) وعن طريق السمع بنسبة (٨%) وأيضاً العين تجذبها الحركة أكثر من أن يجذبها أي شيء آخر.
فهذا الجهاز هو أخطر أجهزة الإعلام وأخطر أجهزة الثقافة والتربية من حيث التأثير؛ لأنه ليس مجرد أفكار معنوية يقرؤها الإنسان في كتاب أو يسمعها من مذياع، بل هو واقع حي يعيش أمام هذا المشاهد، ولذلك فإن تأثير هذه الأشياء لا يقتصر على الأفكار النظرية كما هو تأثير المؤلفات، وإنما ينطبع بصورة أشد على سلوكنا ومظاهرنا؛ فإن أفكاره تترسخ في النفوس أكثر؛ لأنها تظهر حقيقة معاشة وليست مجرد خواطر نقرؤها.
وعن طريق التلفزيون دخلت السينما إلى بيوتنا، وقد كان الناس يتكلفون في الخروج إلى السينما، أما الآن فقد انتقلت إلى داخل البيوت، ونقلت إلينا الشواطئ والحانات والخمارات ومجالس الفسوق والكفر والعصيان عن طريق التلفاز.
يقول بعض الباحثين في كتاب (الناس على دين إذاعاتهم): كان الناس قديماً على دين ملوكهم، كانوا يلتقون بهم في الأسواق وفي الأعياد وفي المساجد، كانوا يحتكون بهم ويتطلعون إليهم كقدوة فيتأثرون بهم، ولكن في العصر الحديث تنازع السيطرة على الناس زعماء الأحزاب وقادة الرأي من الكتاب والساسة والجرائد اليومية، ثم جاءت الإذاعة فتسللت إلى الناس كوسوسة الشيطان، واستحوذت على الآذان، والتفوا حولها، وما لبث أن جاء التلفزيون فاستولى على أفراد الأسرة، فضعف تأثير الأب، بل صار التلفزيون هو الأم المؤثرة في الأسرة، وأصبح الناس على دين هذه الأم.
لقد تولى بالفعل التلفزيون أمور التربية وشئونها، ولم ينتزع زمام الأسرة من الأبوين فحسب، بل انتزعه من المدرسة، وجاء بعده ما سانده وساعده على أداء مهمته وهو الفيديو، وهو ابنه البار الذي -بلا شك- يصعب التحكم فيه؛ لأنه يعتبر وسيلة غير موجهة أو غير متحكم فيها؛ لأن طابعه الدكتاتوري أشد من طابع التلفزيون؛ لأن مادته تأتي في الخفاء سراً دون رقابة، ثم إنه لا يرتبط بنوعية معينة من البرامج، أو مواعيد محددة من الساعات، ولا يبقى رقيب على الشخص بعد الله سبحانه وتعالى إلا الوازع الإيماني في قلبه إن وجد.
ثم بعد ذلك يأتي البث المباشر وما يتلوه من قفزات، فجعلت بالفعل قنوات التلفاز في العالم كله عند أطراف أصابع الإنسان العادي، حتى إنه لا يتكلف أن يقوم من الفراش كي يشغل الجهاز، وإنما يتحكم به على بعد وهو جالس يطوف العالم كله، وهذا هو الخطر الحقيقي، لقد انعقدت ألويته فوق رءوسنا يبغي إخراجنا من ملتنا وتعبيدنا لغير الله سبحانه وتعالى، أو استذلالنا واستعبادنا لنمشي في موكب الرذيلة مع القافلة إلى الهاوية.