يلفت الغزالي في مواضع من كتابه إلى وسيلة إسقاط الجاه، فيقول: إن الجاه نوع من الكرب للإنسان، ولذلك يستحسن بعض الناس أن يعملوا تصرفات حتى يسقط جاههم في قلوب الناس.
ويقول: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق.
وهذا مذهب الملامتية، والملامتية الشخص الذي لا يظهر في ظاهره ما في باطنه، وهذا عند الصوفية من أعظم الناس إخلاصاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يخفي على الناس صلاحه وتقواه ويظهر خلاف الحقيقة.
يقول: إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس؛ ليسلموا من آفة الجاه.
أي: من أجل أن يتخلص من مسألة الجاه، فإن الناس يحترمونه لأنه رجل صالح وتقي، فيقول: أريد أن أزيل عني هذه الشبهة، وحتى لا أطلب الجاه بقلوب الناس، فيأتي ببعض التصرفات كأن يظهر أنه مجنون مثلاً، ويجعل الصبيان يضربونه بالحجارة، أو يجلس على مزبلة، أو في مكان قذر بحيث يمتلئ بالقمل والقاذورات، يقول الغزالي: فمنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر، حتى يظن أنه يشرب الخمر فيسقط في أعين الناس! وأقول: هل هذه مفاهيم إسلامية؟ أن توقع نفسك في مواقع الشبهة ومواقع التهمة؟! ومما يحكى أن بعضهم عرف بالزهد وأقبل الناس عليه ووصفوه بالزهد، والرجل عابد ومجتهد في العبادة، فدخل حماماً عاماً ولبس ثياب غيره -سرق ملابس غيره- وخرج، فوقف في الطريق حتى عرفوه، من أجل أن يكتشفوا أن هناك ملابس سرقت فيبحثون عن الذي سرقها، فيجدون أنه هو الذي سرقها، فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وفي هذه الحالة اطمأن أنه لم يعد متهماً بالصلاح، طالما أنه سيتهم بالفسق.
أيضاً يقول عن بعضهم: إنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء أجرة ليزدروه بالشتم في المحافل فيتعود احتمالهم.
يعني أنه يريد أن يمرن نفسه على أن يشتم أو يهان من أجل أن يعالج صفة الغضب في نفسه! فيعطي بعض السفهاء أموالاً من أجل أن يشتموه في المحافل أمام الناس، ويصبر هو على ذلك الشتم تدريباً لنفسه، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم! وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله، ورمى بثمنه في البحر.
هذا يريد أن يعالج فتنة المال، فباع كل ما يملك من أموال وأخذ ثمنها وألقاه في البحر!! أليست هذه سفاهة؟! سبحان الله! وهذا مثل عباد الهند، يقول الغزالي: وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها.
وحكى عن الشبلي أنه عالج البخل بأن قام ورمى أمواله في دجلة، وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل! وعقب الغزالي على فعل الشبلي بقوله: فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له! كيف سيكون جوابه أمام الله سبحانه وتعالى إذا سأله عن ماله من أين اكتسبه وفي أي شيء أنفقه؟ لماذا لا يحرص على أن يطعم الفقراء والجياع بهذا المال، أو يعد للغزو والجهاد في سبيل الله؟ وسوف يعالج البخل، وفي نفس الوقت ينفع بهذا المال غيره.