[زيادة مصادر الرزق بتقدم الإنسان وتطوره]
كانت الكرة الأرضية موجودة قبل هذا الإنسان، وكان عليها كل الأسباب التي تحفظ حياته، والإنسان ما خلق فيها شيئاً بنفسه، بل كل ما فعل أنه اكتشف ما كان مخبوءاً في بطنها، أو مبثوثاً على وجهها بجهده وذكائه بعد هداية الله وتوفيقه، يقول الله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:٩ - ١٠] فالله قد قدّر فيها أقواتها، وهيأها الله لنا قبل أن نخلق، فالرزق مخبوء في الأرض، وما هذه القفرة التي قَفَزتها دول الخليج البترولية عنا ببعيد.
فالأرض ما زالت ثرواتها كامنة، فيها من الطاقات والأرزاق ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وكل من يطالع تاريخ الخليج قبل اكتشاف البترول يعلم أنهم كانوا على حالة من الضنك والفقر الشديد جداً، فهذا الرزق المخبوء الذي خبأه الله لهم في الأرض، ثم أخرجه لهم هو نعمة من فضله تبارك وتعالى، وهذا الرزق ما كان يخطر ببال مالتوس ولا غيره عندما أخبر عن المتوالية الهندسية! والمتوالية الحسابية! لكن الله يعلمه، فهو الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
فالإنسان ليس له أي دور في خلق هذه الأسباب، ولا تعيين مواضعها، ومعرفة مقدارها، وساعات ظهورها، كما يقول عز وجل: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٢٧] ينزل الله الرزق بحكمة، وكل ما يصلح الناس ينزله الله عز وجل، فالذي خلق الإنسان وأخرجه من العدم إلى عالم الوجود هو الذي قدر تقديراً محكماً ما سيحتاج إليه لحفظ حياته فوق هذه الأرض، وأودعها وسائل الرزق قبل أن يدب عليها الإنسان نفسه، يعني: الكون خُلق قبل أن نأتي نحن، وعلى قدر ما زاد من أفراد النسل البشري وما زاد من جهوده لحفظ حياته كانت تتكشف له خزائن لا تعد ولا تحصى من موارد الرزق، فالحقيقة على عكس كلام مالتوس وغيره، حيث كان التناسب بين عدد السكان ومصادر الرزق تناسباً طردياً، يعني: كلما زاد عدد السكان كلما زادت مصادر الرزق، وهذه هي الحقيقة، حتى أننا نلاحظها على نطاق بعض الأفراد، حيث تجد بعض الناس عنده من الأولاد عدد كبير، فتجد رزقه -سبحان الله! - يأتيه على قدر هذا العدد، فالبركة تكفي هذا العدد، فإذا تزوج أولاده أو سافر بعضهم أو نقص العدد بصورة أو بأخرى أو ماتوا مثلاً فربما تلاحظ أن الرزق يمكن أن يقل على قدر العدد الموجود، فهذا يحسه الإنسان ويراه، فكلما توهم الإنسان أنه وضع يده على كل أسباب الرزق إذا بالله عز وجل يكشف له من الأسباب ما لم يخطر له على بال.
فالإنسان منذ آلاف السنين كان يرى البخار يرتفع من القدر التي تغلي، لكنه لم يخطر بباله أن هذا البخار سيفتح أمامه في النصف الأخير من القرن الثامن عشر ميداناً واسعاً جداً للرزق في الطاقة البخارية، وكان يرى النفط ويرى فيه خاصية الاحتراق لكنه لم يتوقع يوماً أن عيوناً لا حصر لها من آبار البترول يوشك أن تتفجر على هذه الأرض وتبرز إلى الوجود، حتى خرجت بعد ذلك صناعة السيارات والطائرات، وحصل الانقلاب الهائل في عالم الاقتصاد وموارد الرزق، وكذلك الطاقة الكهربائية قلبت الموازين وزادت في مصادر الرزق، والذرّة التي كانوا منذ قرون يناقشون إمكانية تفتتها من عدمه، وإذا بنا في هذا القرن نجد الذرة تتفتت لتخرج من خزانتها طاقة هائلة جداً لم يكن يتخيلها الإنسان.
أيضاً مما ينبغي أن نتذكره دائماً: أن زيادة عدد السكان لا يعني فقط -كما يشوّش هؤلاء المرجفون- زيادة الأفواه الآكلة، بل هو في نفس الوقت يعني زيادة عدد الأيدي العاملة والمنتجة، وكما أشرنا بموجب علم الاقتصاد فإن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض، ورأس المال، والإنسان، والإنسان أهم وأكبر هذه العوامل، لكن المتعصبين لدعوة تحديد النسل والمتطرفين يصرّون على أنهم لا يرون في الإنسان إلا عاملاً استهلاكياً فقط!! نقول لهم: حتى الإنسان الضعيف الذي يكون عنده أولاد كُثُر فإنه بمرور فترة الحضانة الاقتصادية هذه سوف يصبح هؤلاء الأولاد منتجين، وهم الذين يرعون آباءهم في الكبر، وينفقون عليهم، ويرعون أشقاءهم الصغار.
فهي في الحقيقة ليست أنفساً استهلاكية فقط كما يصور القوم، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، وكما يقولون: الحاجة أم الاختراع، فإذا زاد السكان حصل البحث والسعي وراء مصادر الرزق، فيحصل تعمير أكثر لهذه الأرض، وسوف يبحث الإنسان عن رزق في الأراضي البكر، ويستصلح الأراضي البور، ويبحث عنه في أعماق البحار وفي المناجم، وإلا لو قنع الإنسان بالموجود لتبلد وكسل.
يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:١٥] فلا بد أن نكون على يقين من هذه الحقائق، فالارتباط بين النسل والرزق هي قضية عقائدية أولاً قبل أن تكون مخططاً لإبادة المسلمين، وذلك لتعلقه بالربوبية والألوهية.
فالله عز وجل يضمن لعباده -برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم- مقومات الحياة دون تفريق، وأما أنت فلست تعرف روحك الذي في بدنك، ولا تفهم سرها، وكذلك قلبك الذي يدق وينبض بطريقة لا إرادية وأنت مستيقظ أو نائم، أين المولد الذي يولّد فيه الحركة؟! من الذي يحفظ لك هذا القلب وكل وظائف الجسم التي تعمل فتبقى مقومات الحياة إلى أجل يعلم الله مداه؟! أما من ناحية أعمال الربوبية: فمعنى الربوبية التربية وتوفير مقومات الحياة، فمن الذي يؤمن لنا الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والشمس التي هي عامل مهم جداً في استقامة حياتنا؟! ومن الذي يحفظ استقرار الأرض التي إذا خرج منها الإنسان إلى الفضاء فإنه يراها معلّقة مثل الكرة في الفضاء؟! من الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا؟! {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:٤١]، ليس إلا الله عز وجل، فلا تقلقوا على أرزاق الناس، وليس بأيديكم مفاتيح الرزق، بل هي بيد الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:١٩] فظاهرة التوازن -كما سنبين إن شاء الله- من الضوابط التي ضبط الله بها هذا الخلق، فهناك توازن بين المخلوقات به تستقيم الأمور، تأمل مثلاً: ظاهرة العلامة بين الأنهار والبحار، فمنذ أن خلق الله عز وجل الأنهار ووصلها بالبحار والظاهرة مستمرة، وهي: أن الأنهار تصب في البحار، لا الأنهار جفّت ولا البحار امتلأت!! من الذي يزن ذلك؟! هو الله تبارك وتعالى.
من الذي ينظم نسل الأسماك في الماء، والطيور في الهواء، والحيوانات على الأرض؟! لو أن الوحوش تكاثرت بحيث صارت أضعافاً مضاعفة أكثر من بني الآدميين لأهلكتهم، فمن نظم نسلها؟! هل هناك هيئة تنظيم أسرة المستقبل عند الأسود والوحوش والنمور؟! لا، إنما يدبّرها الله، هذا ليس إلينا نحن، ولا إلى أسرة المستقبل المظلم، والله أعلم.
فالذي يحتاج إليه الإنسان هو الخبز وليس أقراص منع الحمل، هذا تصرف سلبي في مواجهة المشاكل، والمفروض أن الإنسان يخرج ما عنده من الطاقة، ويستفرغ وسعه في البحث عن مصادر الرزق، لكنهم يقلقون أنفسهم، ويفكرون فيما سيحدث بعد خمسين سنة بعد ألف سنة كيف سيكون شكل مصر ومستقبلها ومستواها!! لكن الذي نعلمه جيداً أننا بعد مائة سنة سنموت جميعاً، وأما قضية الأرزاق هذه فليست إلينا.