[الحكمة من تثليث الاستئذان]
ما الحكمة من تثليث الاستئذان؟ عن قتادة في معنى قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:٢٧] قال: هو الاستئذان ثلاثاً، فمن لم يؤذن له فليرجع، أما الأولى: فليسمع الحي، وأما الثانية: فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة: فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا، ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
فهذا فيه بيان حكمة الاستئذان ثلاث مرات: الأولى: معرفة أن ثمة شخصاً بالباب ليسمع الحي.
الثانية: ليأخذوا حذرهم من ستر عورات مكشوفة، أو إعداد مكان، أو نحو ذلك.
الثالثة: إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا.
وقوله: ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم.
هذا نهي للإنسان إذا اعتذر له صراحة أو ضمناً أن يعكف عند الباب، فإن فيه أذى.
قال: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال، والله أولى بالعذر.
فقد يكون عند صاحب البيت موعد في نفس الوقت، أو يريد أن يخرج لمشوار مهم جداً: كموعد مع طبيب، أو الذهاب إلى العمل والوظيفة، وهناك حرج من مواجهة المستأذن، فهو يريد أن يمشي وربما تمشي معه نساؤه -مثلاً- فلو بقي ذلك الرجل واقفاً له على الباب فكيف يخرج إلى مصالحه؟ فهذا معنى قول السلف: فإن للناس حاجات، ولهم أشغال.
فالوقوف أمام البيت سيعيق أهل البيت عن الحركة الحرة، فانتبهوا لهذا جيداً، فمن استأذن فلم يؤذن له فلابد أن ينصرف، بخلاف من أتى ولم يستأذن، كما سنبين فيما بعد.
وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: الأولى إعلام، والثانية مؤامرة -أي: شورى بين أهل البيت، فيتشاورون: هل نأذن أم لا نأذن؟ لسبب أو لآخر، وليس المراد من المؤامرة المعنى المعروف- والثالثة: عزمة قرار وعزيمة، إما أن يؤذن له، وإما أن يرد.
وقال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: وقال بعضهم: المرة الأولى من الاستئذان: استئذان، والمرة الثانية: مشورة، هل يؤذن في الدخول أم لا؟ والثالثة: علامة الرجوع، ولا يزيد على ذلك على ثلاث.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وحكمة التعداد في الاستئذان أن الأولى: استعلام، والثانية: تأكيد، والثالثة: إعذار.
وقد فصل الحنفية دون غيرهم في مدة الانتظار بين كل استئذانين، فقالوا: يمكث بعد كل مرة مقدار ما يفرغ الآكل، والمتوضئ، والمصلي أربع ركعات، وهذا لا دليل عليه، والمسألة نسبية، فإذا كان أحد على عمل من هذه الأعمال فينتظر حتى يفرغ منه، وإن لم يكن على عمل منها كانت عنده فرصة في أن يأخذ فيها حذره، ويصلح شأنه قبل أن يدخل الداخل.
وقال القاضي ابن العربي أيضاً: قال جماعة: الاستئذان فرض، والسلام مستحب، {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا} [النور:٢٧]، وبيانه أن التسليم كيفية في الإذن.
يعني: كلمة السلام جاءت لتشرح لنا (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا).
وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على ابن عمر فقال: أألج؟ فأذن له ابن عمر، قال زيد: فلما قضيت حاجتي أقبل عليّ ابن عمر فقال: مالك واستئذان العرب؟! إذا استأذنت فقل: السلام عليكم، فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل؟ فإن أذن لك فادخل، فعلمه سنة السلام.