[كلام السلف في الاشتغال بعيوب النفس]
يقول الإمام أبو حاتم ابن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس، مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه، فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، ومن سنة القتال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:١٢٣]، فابدأ بالعدو الأقرب عن العدو الأبعد، فنفسك التي بين جنبيك هي العدو الأول أو الأقرب إليك، فاجتهد بمجاهدتها أولاً.
يقول: وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما يقول الشاعر أيضاً: لا يشفي كلوم غيري كلومي ما به به وما بي بي الجراح التي في غيرك تؤلمك أكثر أم الجرح الذي في جسدك وفي بدنك؟! جراح غيرك لا تشفي جراحك أنت، وكل بجرحه.
وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ذكروا رجلاً فقال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك.
قال أبو البحتري العنبري: يمنعني من عيب غيري الذي أعرفه عندي فوق العيب عيبي لهم بالظن مني لهم ولست من عيبي في ريب إن كان عيبي غاب عنهم فقد أخفى عيوبي عالم الغيب يعني: يمنعني من ذكر غيري بعيوبه ما أعرفه في نفسي من العيوب.
قوله: (عيبي لهم بالظن مني لهم) يعني: عيبي لهم بأشياء مظنونة، لكن أنا على يقين من عيبي إن كنت في حالة ظن من عيوبهم.
وعن بكر قال: تساب رجلان فقال أحدهما: حلمي عنك ما أعرف من نفسي، يعني: الذي يجعلني أحلم وأصبر ولا أرد عليك أنني أعرف من نفسي عيوباً أكثر من التي تعيرني بها.
وقيل للربيع بن خثيم: ما نراك تغتاب أحداً، فقال: لست عن حالي راضياً حتى أتفرغ لذنب الناس، ثم أنشد: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقي زاهد زاهداً، فقال له: يا أخي! إني لأحبك في الله، قال الآخر: لو علمت مني ما أعلم من نفسي لأبغضتني في الله، فقال له الأول: لو علمت منك ما تعلم من نفسك لكان لي في ما أعلم من نفسي شغل عن بغضك.
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى ولو كان ذا عقل لما عاب غيره وفيه عيوب لو رآها قد اكتفى وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه.
وعن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس.
وقال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير.
وقال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة، وكفى المرء شراً ألا يكون صالحاً ويقع في الصالحين.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين له، يعني: غوغاء وأسافل.
لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك قال بكر بن عبد الله: إذا رأيتم الرجل موكلاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه، فاعلموا أنه قد مكر به.
وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس فقال: قد استدللت على عيوبك لكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها: وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب وقال آخر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وقال ابن السماك ي: سبعك بين لحييك، تأكل به كل من مر عليك، قد آذيت أهل الدور في الدور، حتى تعاطيت أهل القبور، أي: ما سلم منك أحد تأكل أعراض الأحياء وتؤذيهم، ثم تحولت بعد ذلك إلى أهل القبور.
يقول: حتى تعاطيت أهل القبور، فما ترثي لهم وقد جرى البلى عليهم، وأنت هاهنا تنبشهم، إنما نرى نبشهم أخذ الخرق عنهم، يعني: يوصف الإنسان بأنه نباش إذا كان يأخذ أكفان الموتى، فيقول: لا، النبش ليس هو سرقة أكفان الموتى، إنما هو النبش الحقيقي الخطير، وهو نبش عيوب الموتى.
قال: إذا ذكرت مساويهم فقد نبشتهم، إنه ينبغي لك أن يدلك على ترك القول في أخيك ثلاث خلال: أما واحدة: فلعلك أن تذكره بأمر هو فيك، فما ظنك بربك إذا ذكرت أخاك بأمر هو فيك؟! يعني: نفس العيب الذي تغتاب به أخاك هو موجود فيك أنت، فما جوابك عند الله؟! ولعلك تذكره بأمر فيك أعظم منه، فذلك أشد استحساناً لمقته إياك.
ولعلك تذكره بأمر قد عافاك الله منه، فهل هذا جزاؤه إذ عافاك؟! يعني: إما يكون ذنبك مثل ذنبه، وإما أن يكون أعظم من ذنبه، وإما أنك عوفيت، فهل جزاء الله سبحانه وتعالى أن عافاك أن تغير هذا المسلم؟! أما سمعت: ارحم أخاك واحمد الذي عافاك؟! إن شئت أن تحيا ودينك سالم وحظك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين قال أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت المدائني يقول: رأيت أقواماً من الناس لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب، ورأيت أقواماً لم تكن لهم عيوب، فاشتغلوا بعيوب الناس؛ فصارت لهم عيوب! لأن من اغتاب اغتيب، ومن عاب عيب.
فبحثه عن عيوب الناس يورث البحث عن عيوبه، ولعل في قاعدة: الجزاء من جنس العمل زاجراً للذين يخوضون في عيوب الناس، فيكفوا عنها خشية أن يعاملوا بالعدل، فإن البلاء موكل بالقول: لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن قال تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:٩٤].
وعن إبراهيم قال: إني لأرى الشيء مما يعاب لا يمنعني من غيبته إلا مخافة أن أبتلى به.
وعن الأعمش قال: سمعت إبراهيم يقول: إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون كلباً، وإني أكره أن أرى رجلاً فارغاً ليس في عمل آخرة ولا دنيا.
وقال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع.
وقال ابن سيرين: عيرت رجلاً وقلت يا مفلس، فأفلست بعد أربعين سنة.
وعن الحسن قال: كانوا يقولون من رمى أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به.
وقال الإمام الزهري رحمه الله تعالى: حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية رضي الله عنه فقضى حاجته ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟! يعني: أنت كثير النقد للخليفة فقال: دعنا من هذا وأحسن، يعن: لا داعي أن نفتح هذا الموضوع، قال: لا والله لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي، أي: صارحني وواجهني بما تنتقده علي، قال المسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟! فـ معاوية رضي الله تعالى عنه قال: أنا لا أبرأ من الذنب؛ لأني بشر غير معصوم، لكن هل في المقابل كما أحصيت السيئات وضعت في الكفة الأخرى الحسنات؟ صحيح أن الدولة الأموية ليست كالخلافة الراشدة ولا كالدولة العباسية، لكنها في إطار الخلافة الإسلامية، ونحن الآن نتمنى أن ترجع إلينا حتى الخلافة العثمانية فيا ليت أنها هي التي تحكمنا الآن، فأوضاع العالم الإسلامي الآن معروفة وكيفما تكونوا يولى عليكم، قال بعض السلف: أعمالكم عمالكم، يعني: كيفما تكونوا يولى عليكم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام:١٢٩].
فالشاهد أنه قال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا -يا مسور - ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها أم تعد الذنوب وتترك المحاسن؟ قال: ما نذكر إلا الذنوب، قال: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك -يا مسور - ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تغفر؟ قال: نعم.
قال: فما يجعلك لرجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: إذا كان كنت ترتكب ذنوباً بينك وبين الله سبحانه وتعالى ترجو أن الله سبحانه وتعالى ينجيك من الهلاك بسبب هذه الذنوب، فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ يعني: أنت لماذا تغلق باب الرحمة في وجهي؟ ولماذا لا أطمع في رحمة الله وأن يعفو الله عني ذنوبي؟! قال: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؟ فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين الله وغيره إلا اخترت الله على ما سواه، وإني على دين يقبل فيه العمل، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني، يعني: غلبني، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه، أي: بعد ذلك تاب من هذا الأمر، فكان إذا ذكر معاوية يدعو له.
وعن أبي راشد قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى عبيد الله بن عمر فقال: إني رسول إخوانك من أهل البصرة إليك، فإنهم يقرئونك السلام ويسألونك عن أمر هذين الرجلين علي وعثمان وما قولك فيهما؟ هذا الرجل شد الرحال من ال