الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض إذا سألنا من الذي وضع هذه الحدود الوهمية التي لا نراها إلا على الخرائط، نجد أن الاستعمار هو الذي قسم هذه الحدود، وهو الذي شطرنا بهذه الطريقة؛ في حين أننا إذا رأينا الحدود بين دولهم في أوروبا نجدها بخلاف ذلك، وأنا رأيت الحدود بين هولندا وألمانيا عبارة عن شارع في وسطه رصيف ارتفاعه حوالى نصف متر أو أقل، يعني: ممكن أن تكون أحدى رجليك في هولندا والأخرى في ألمانيا، والناس يتحركون بمنتهى الحرية، هذه هي الحدود بينهم، والآن هم ساعون في إزالة هذه الحدود، بل فعلوا ذلك بالفعل عن طريق الوحدة الأوروبية التي تحققت بالفعل، فهم بقدر ما اجتهدوا في تمزيقنا كما تمزق الجبنة الرومي هم أيضاً يندمجون ويتوحدون ويلغون الحواجز بينهم، فهذه الحدود ليست في القرآن ولا في السنة، بل هذه الحدود إنما رسمها أعداؤنا، فالوطنية بمعناها المحصور في هذه الحدود أو في عرق أو لون أو جنس خاطئة، وهذا المفهوم مفهوم دخيل، لم يعرفه السلف ولا الخلف، وأول من أدخل مفهوم الوطنية الوثنية في بلاد المسلمين أو في مصر على الأقل هو رفاعة الطهطاوي لما أرسله محمد علي إلى فرنسا ورجع ملوثاً ببعض الأفكار من فرنسا منها فكرة الوطنية، وهو أول من بدأ ينشر روح الوطنية بالمعنى الوثني، والارتباط بالتراب وبالأرض ونحو هذا الكلام الذي استورده من الأفكار التي تأثر بها في فرنسا، فطرأ علينا هذا المفهوم المحدود الضيق ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية الإسلامية التي ذوبت قوميات الأمم، والتي فتحتها في قومية واحدة هي القومية الإسلامية، والوطنية الإسلامية، ودمجتها جميعاً في أمة التوحيد.
وهاكم شهادة شاهد من أهلها، وهو المؤرخ اليهودي برنارد لويد، حيث يقول هذا المؤرخ اليهودي: كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.
وهذا اعتراف صريح من هذا اليهودي بأن الغرب هو الذي زرع ظلماً وعدواناً مفاهيم القومية والعلمانية ليوهن ويضعف الهوية الإسلامية.
ويقرر هذا المؤرخ نفسه حقيقة ناصعة فيقول: فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن كتل المشاعر الجماهيرية، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة.