[التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره]
فالنوع الأول من التبرك المشروع هو التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره، فلا شك في أن ذات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات مباركة جعل الله تبارك وتعالى فيها بركة خاصة به صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون ذلك، كما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات -أي: كان يرقي نفسه- فلما ثقل كنت أنفث عنه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها) أي: بدل أن تقوم هي بقراءة المعوذات بيدها وتنفث فيها ثم تمسح عليه بيديها كانت تجمع يديه وتقرأ فيهما، ثم تمسح عليه بيديه الشريفتين صلى الله عليه وآله وسلم.
فـ عائشة رضي الله عنها كانت تعرف بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا كانت تمسح بها على نفسه الشريفة، وهو صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك، ولم يقل لها: لا فرق بين يدي ويدك.
مما يدل على اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بتلك البركة العظيمة، وأن تلك البركة العظيمة تنتقل بإذن الله عز وجل إلى المتبرك الذي يعلم أنها من الله تبارك وتعالى.
وهذه البركة خص بها أفضل الخلق صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -أي: الفجر- جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها صلى الله عليه وآله وسلم) أي: يعملون هذا تبركاً بالماء الذي تدخل فيه يده الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال أنس: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل) رواه مسلم في صحيحه.
يعني: كان الحلاق إذا حلقه اجتمع الصحابة وأطافوا به حتى لا تكاد تسقط شعرة واحدة على الأرض، وهذا من حرص الصحابة على أن يقع هذا الشعر في أيديهم، فكانوا ويأخذونه ويتبركون به.
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها وليست فيه، - وأم سليم كانت محرماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما بين ذلك الإمام النووي رحمه الله-، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك.
قال: فجاءت وقد عرق، واستنقى عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها -والعتيدة مثل الصندوق الصغير تجعل المرأة فيه ما يعز عليها من المتاع أو يندر- فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: يا رسول الله! نرجو بركته - أي: العرق - لصبياننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت).
وفي رواية: (أدوف به طيبي) أي: أخلط به الند أو العطر الذي أستعمله.
وفي صحيح البخاري عن ثمامة عن أنس: (أن أم سليم كانت تبسط للنبي صلى الله عليه وسلم نطعاً، فيقيل عندها على ذلك النطع)، والنطع هو بساط من الجلد، وقوله: (يقيل عندها) يعني: ينام وقت القيلولة.
وهو قبل صلاة الظهر، وليس كما يتصور بعض الناس أنه بعد صلاة الظهر، بل وقت القيلولة ما قبل صلاة الظهر.
قال: (فإذا نام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذت - يعني: أم سليم - من عرقه وشعره، فجمعته في قارورة، ثم جمعته في طست- والطست هو طيب مركب يضاف إليه غيره- وهو نائم).
وأنس بن مالك هو ابن أم سليم.
قال الراوي: (فلما حضرت أنساً الوفاة أوصى بأن يجعل في حنوطه من ذلك الطست) يعني: من ذلك الطيب أو الأطيبة التي يدهن بها الميت بعد أن يغسل بالماء.
قال: (فجعل في حنوطه).
قال أيوب عن ابن سيرين: فاستوهبت من أم سليم من ذلك الطست فوهبت لي منه.
قال أيوب: فاستوهبت من محمد من ذلك الطست فوهب لي منه، فإنه عندي الآن.
قال: ولما مات محمد حنط بذلك الطست.
وأيضاً في نفس هذا الباب روى مسلم في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: (ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وجع.
فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة) أي: أن خاتم النبوة كان بين كتفيه صلى الله عليه وآله وسلم مثل زر الحجلة، والحجلة واحدة الحجال، وهي: ساتر كالقبة لها أزرار كبار وعرى، وهي شيء كان يجعل للعروس في ثوبها مثل الستائر، فخاتم النبوة مثل الزر الذي كان يفعل للحجلة.