للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سجود الكائنات]

ومن هذه العبودية التي تقوم بها الكائنات: عبادة السجود، يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:١٨].

في هذه الآية قرينة واضحة على أن السجود هنا سجود حقيقي، وليس بالمعنى المؤول بأنه بالدلالة على الله سبحانه وتعالى، هذه القرينة هي قوله تعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، لو كان المقصود التسبيح بمعنى أن من رآها قال: سبحان الله، لقال: والناس أو وكل الناس؛ لأنك إذا رأيت أي مخلوق خلقه الله، فيمكن أن تقول: سبحان الله؛ لأنه خلق له هذه العين وهذه الأذن وهذا الأنف، وخلقه بهذه الطريقة، فلو كانت الدلالة العامة بالصورة المؤولة لما قال تبارك وتعالى: (وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ)، ولكن بعض الناس قال: لم يقصد هنا التسبيح الحقيقي؛ لأن من الناس من يكفر بالله ويجحده، ولا يسجد له ولا يسبحه، فإذا كان الأمر كما زعموا فلن يكون لتخصيص السجود بكثير من الناس معنىً.

ثم قال تعالى في آية أخرى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٤٨ - ٥٠].

الشاهد: قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:٤٨]، حيث إنه هنا بين كيفية سجود هذه الأشياء فقال: (يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ)، يعني: أن الكائنات التي لها ظل هذه هي كيفية سجودها لله سبحانه وتعالى، فالله قادر على أن يخلق للظل إدراكاً يسجد لله به سجوداً حقيقياً.

وقوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) هذا يدل على أن المقصود جميع الكائنات؛ لأنه ليس هناك كائنات تخرج عن السماء أو الأرض؛ فلذلك هذا كله يسجد سجوداً حقيقياً لله عز وجل، ولذا قال: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:٤٩ - ٥٠].

هناك خلاف في كيفية هذا السجود، فهناك سجود، وهناك تسبيح، فمثلاً: الطيور تسمعها في وقت الشروق وفي وقت الغروب، وإذا كان هناك غابة فيها أشجار كثيرة أو بستان أو حديقة تسمع أصوات الطيور في هذين الوقتين بالذات كأنها أوامر مكلفة بها، وحينما تسمع هذا ما يدريك لعل هذا هو تسبيح الطيور؟ لكنك لا تفقه منه شيئاً، وكونك لا تفقه لا يسوغ لك أن تنكره.

وهكذا الأمواج تسبح، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى من الكائنات يسبح الله عز وجل.

لكن يختلف الإنسان عمن عداه في كيفية السجود، فنحن -مثلاً- معشر المسلمين سجودنا الخاص بنا هو ذلك السجود الذي يكون على سبعة أعضاء، أما بقية الكائنات فسجود كلٍ بحسبه، إذ كل كائن له طريقة خاصة بالسجود الله أعلم بها، فلو قيل: كيف يسجد الشجر؟ وكيف يسجد القمر؟ وكيف تسجد الشمس؟ وكيف تسجد هذه الكائنات؟ لقلنا: لا ندري، لكن هي تسجد قطعاً بلا شك في ذلك.

فالخلاف هو في كيفية السجود، ونحن نعرف فقط سجودنا نحن؛ إذ نسجد على سبعة أعضاء، أما ما عدانا من الكائنات فهي تسجد، ولكننا لا نعرف هذه الكيفية.