[كشف المبتدع ومشروعية الرد عليه إذا أظهر بدعته]
قال بعض العلماء: القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلّمٍ ومُعّرّفٍ ومُحذّرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يكره التصدي لمجادلة المبتدعين، وقد حكى عنه الغزالي في كتابه المسمى: (المنقذ) أنه أنكر على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث: الرد على البدعة فرض.
فقال أحمد: نعم، ولكن حكيتَ شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يُؤمَن أن يطالع الشبهة من تَعْلق بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه.
قال الغزالي: وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، أما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.
نقول قبل أن ندخل إلى الموضوع: إن صاحب الحق المتفهم لحقه، والمحيط بأطرافه لا يبالي بالمخالفين وإن كثروا أو ضخُمت ألقابهم، ولا يبالي بكل ما يولدون من شبهات وإن بدت كبيرة قوية، ولا يجعل مناط الحق بمركز ولا لقب ولا شهرة؛ لأنه يعلم أن من سنن الله في الاجتماع وفي الكون أنه عز وجل يسلّط الأضداد بعضها على بعض، فيسلط الباطل على الحق، والضلالة على الهدى، والخطأ على الصواب، والجاهل على العالم، والسفيه على الحليم، والأحمق على الكريم، إن هذه ضرورة اجتماعية تخلّص الحق من شوائب الباطل، والصواب من متاهات الأخطاء، فيمتاز الحق بأهله، والباطل بأهله، مثل تلك الضرورة الكونية التي يسلط الله فيها الليل على النهار ليخرج الفجر ناصعاً من سواد الليل.
إن من المكابرة والعناد أن تقول بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم بعد ثبوت ذلك بالسنة الصحيحة ومشاهدة إقرار أئمة الأمة وصلحائها وأفاضلها في كل زمان ومكان من عهد نزول الوحي إلى اليوم، وإن إنكار هذا الجاهل المبتدع لأمر مُجْمَع على مشروعيته لا قيمة له، وليس من المعقول أن يُكذب الصحابة والسلف ويُصدق هذا الفاذ الشاذ عن الجماعة، ثم إنك إذا نظرت في كلامه ترى أنه قضى -تقريباً- نصف الكتاب في مدح نفسه، والثناء على منهجه، وفي الكلام عن الأدلة، حتى أوهم الناس أنه على شيء من العلم أو أنه يحترم الأدلة، وهو أكثر ما يكون بعداً عن الأدلة، وكذلك في حواره الآن على صفحات الجريدة يكثر من الكلام في العمومات ويختبئ وراءها، فيذكر الأدلة العامة؛ لأنه ليس عنده قضية محددة ولا دليل محدد، ويتكلم عن احترام العلماء وأهمية العلم، وتسفيه الجهلاء، ويقول: لا نأخذ الحق من الرجال.
ثم يصول ويفتي ويعيد وكأنه على حق، حتى يغطي ضلاله وباطله وبدعته.
ونقول: نعم الحق لا يُعرف بالرجال، لكن نقول في نفس الوقت -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-: إذا كان الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق -أيضاً- لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاّء عليه.
ويقول بعض العلماء: الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل أحد فيه ينبئان عن خلل في العقل.
وعن زفر بن الهذيل أنه قال: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يُجنّ.
قالوا: كيف ذلك؟! قال: يقول بما لم يقل به أحد.
أي: أن يقول الإنسان بما لم يقله أحد قبله من أهل العلم.
وأرى من الواجب الديني أن أوصيه إن كانت فيه مسكة من العقل وبقية صالحة للتعقل أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه.
وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاً ورجالاً لقصعة وثريدِ والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة.
ويقول أبو عمرو بن العلاء البصري -وهو أحد القراء السبعة-: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ويقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلّما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.
وهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله ورضي عن أبيه وجدّه يقول: ليس ما لا يعرف من العلم، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن.
ويقول إبراهيم بن أبي عبلة رحمه الله: من حمل شاذّ العلم حمل شراً كثيراً.
ويقول الحافظ ابن حجر: إذا تكلم المرء في غير فنّه أتى بهذه العجائب.
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة -شيخ الإمام مالك - فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه.
فقال: لا، ولكن استُفتي من لا علم عنده، وظهر في الإسلام أمر عظيم.
ثم قال ربيعة: ولبعض من يُفتي هاهنا أحق بالحبس من السّرّاق.
أي: أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص.
وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدُّخَلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويُفسدون ويقدّرون أنهم يُصلحون.
وقال القاسم بن محمد: لأنْ يعيش الرجل جاهلاً خير من أن يقول على الله ما لا يعلم.
وقال الأمير شكيب أرسلان: ومن أسباب تأخر المسلمين: العلم الناقص، والذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط.
لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون.
وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.