المظهر الثاني من مظاهر سماحة الإسلام: مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار، فالإسلام حث على البر والإحسان وبذل المعروف والنصح لجميع الناس، إلا من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتربص بالمسلمين الدوائر، وهؤلاء هم الذين يسمون بالحربيين، فمن لم يكونوا حربيين يجوز أن يبروا وأن يسالموا؛ لأن الإسلام لا يمانع من برهم والعطف عليهم ما داموا مسالمين موادعين، كحال أهل الذمة الذين لهم عهد مع الخليفة أو الحاكم المسلم، فتراعى ذمتهم ويحسن إليهم، كذلك أيضاً أهل الصلح ونحوهم، يقول تبارك وتعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة:٨ - ٩].
يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}[الممتحنة:٨] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم؛ لأن الله عز وجل عمهم في الحكم، وذلك بقوله:{الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}[الممتحنة:٨] لأن (الذين) اسم موصول يفيد العموم، فتعم جميع من كانت تلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ.
ويقول الشوكاني أيضاً حول هذه الآية: ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يظاهروا الكفار عليهم.
وخلاصة الكلام: أن الإحسان وحسن الخلق وبذل المعروف مرغب فيه لكل أحد ولو كان لغير المسلمين، يقول ابن المرتضى اليمني: المخالفة والمنافعة وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف ونحو ذلك يستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذمة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب.
يعني: إظهار المودة للكافر الحربي مما يجعلك في صورة المتذلل له المضطهد له حتى لا يؤذيك، أو يؤدي إلى نوع من الاعتزاز على المسلم، فمثل هذا لا يشرع، لكن فيما عدا ذلك كما أشرنا من قبل أن التسامح الإسلامي هو تسامح القوي، ورحمة الإسلام رحمة العزيز بلا ذل ولا هوان.
إذاً: حسن الخلق مطلوب مع كل الناس، بعض الناس يتكلف إساءة الخلق مع الكافر غير الحربي، يظن أن هذا هو حقيقة الولاء والبراء، لكن إذا تأملنا موقف موسى عليه السلام من فرعون، وفرعون لا يرتاب أحد في أنه من أشد الناس كفراً، وأنه قال:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:٣٨] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:٢٤] ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً قال عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه:٤٤]، فإلانة القول وحسن الأسلوب في الكلام والأدب وحسن الخلق هذا مرغوب مع كل أحد.
أقول: وهذا القيد الذي ذكره ابن المرتضى قيد في محله، ففعل البر كله لابد أن يكون من يد عليا عزيزة، فإذا كان يفضي إلى ذل واستكانة فلا ينبغي فعله لغير المسلم.