[اختلاف العلماء في أرجى آية في القرآن]
ما هي أعظم آية رجاء ينبغي أن نستحضرها من الآيات التي تطمعنا في رحمة الله، وتفتح قلوبنا لأبواب الرجاء في الله سبحانه وتعالى؟ اختلف العلماء في هذه المسألة: فبعضهم قال: أرجى آية في القرآن هي آية الدين.
قد تستغربون كيف تكون آية الدين هي أعظم آية رجاء في القرآن! قال بعض العلماء: إنها أرجى آية في القرآن للعصاة؛ لأن هذه الآية تبين كيف احتاط الله سبحانه وتعالى لحفظ مال المسلم حتى لو كان دريهمات قليلة، فمع أن الدنيا بكل ما فيها من كنوز وأموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، لكن الله سبحانه وتعالى شرع ما يحفظ حق المؤمن، فحفظ مصلحة المؤمن ورحم حاجاته في الدنيا بهذه الآية التي هي أطول آية في القرآن.
فالله سبحانه وتعالى أرحم بعبده المؤمن في الآخرة منه به في الدنيا، وإذا كان لمصلحته في الدنيا أنزل أطول آية في القرآن، فكيف يكون أملنا في رحمة الله سبحانه وتعالى في مصالح الآخرة؟ وقال بعض العلماء: أرجى آية هي قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:٥٣ - ٥٦] إلى آخر الآيات.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، فيخبر الله سبحانه وتعالى أن ذنوب المؤمن بين حالتين: إما ذنوب يعاقب بها في الدنيا: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ))، فما عاقب الله عليه العبد في الدنيا فهو أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، فالذنب الذي عوقبت عليه في الدنيا فلن تعاقب عليه مرة ثانية في الآخرة، والذنب الآخر يعفو الله عن كثير منه، فما عفا الله عنه فهو أكرم من أن يعذب عليه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥] قالوا: لن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحد من أمته في النار، ونظمها بعضهم في بيتين فقال: ولقد قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء وقال بعضهم: إن أرجى آية في القرآن قوله سبحانه وتعالى في سورة النور: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٢٢] هذه الآية نزلت في مسطح لما وقع في حديث الإفك في حق عائشة رضي الله تعالى عنها، فعاقبه أبو بكر بأن منع عنه العطاء الذي كان يعطيه إياه، وهو قريب له؛ فنزلت هذه الآية تعاتب أبا بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:٢٢]، فرغم وقوع مسطح في كبيرة القذف إلا أن ذلك لم يحبط جهاده السابق، فقال الله: ((وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فأثبت له صفة الهجرة في سبيل الله، وهذا دليل على أن المؤمن لا يكفر بالذنب كما يظن الخوارج.
وقال بعض العلماء: إن أرجى آية في القرآن هي قول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢].
فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين أورثهم الكتاب مصطفون، أي: مختارون أراد الله بهم خيراً، وفسمهم إلى ثلاثة أقسام: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ))، ثم ذكر ذكر بعد ذلك ثواب هؤلاء الثلاثة فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [فاطر:٣٣] فلذلك قال بعض العلماء: حق هذه الواو أن تكتب بماء العين، لأن هذه الواو تعود على الثلاث الطوائف: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)).
والرجاء في رحمة الله سبحانه وتعالى من الأمور التي أمرنا بها، لكن الرجاء لابد أن يستتبع العمل، أما الرجاء الذي لا يستتبع عملاً فهذا غرور كما قال الله: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤]، فالرجاء يطلق عليه رجاء إذا اقترن به عمل وإلا فهو أماني وأحلام.
يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، قالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا! لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:٢٩]، لم يصفهم برجاء إلا بعد العمل الصالح، فأنت تعمل ثم تطمع في رحمة الله، أما أن تفرط في طاعة الله ثم ترجو رحمة الله فهذا من تلبيس إبليس ومن تزيين الشيطان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأن يعيذنا جميعاً من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.