[التفريق بين كفر النوع وكفر العين]
كفر النوع لا يستلزم كفر العين، فالبدعة نفسها تكون كفراً لكن لا يكون الشخص المتلبس بها كافراً، فأهل السنة والجماعة يفرقون بين الحكم المطلق على أصحاب البدع بالمعصية أو الفسق أو الكفر وبين الحكم على شخص معين ممن ثبت إسلامه بيقين، فالشخص إذا ثبت إسلامه بيقين لا يمكن أن تنفى عنه صفة الإسلام إلا بيقين.
فمن صدر عنه إحدى هذه البدع لا يمكن الحكم عليه بأن نقول له: كافر أو فاسق أو عاص إلا بتوافر شروط، وانتفاء موانع، فلا يحكمون عليه بذلك حتى يبين له مخالفة قوله للسنة؛ وذلك بإقامة الحجة، وإزالة الشبهة، كما يفرقون بين نصوص الوعيد المطلقة وبين استحقاق شخص بعينه هذا الوعيد في أحكام الآخرة؛ لأن التكفير نوع من الوعيد، وأي فعل يترتب عليه وعيد فقد يكون أقل من الكفر، لأن الكفر أشد الأفعال وعيداً.
والآن بعض الناس يعتبرونها بطولة أن يكفروا شخصاً بعينه أو يبدعونه! يقول صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك) فلا تتكلم إلا بعلم وحجة، لكن تكلم بكلام عام في المواعظ، ودروس العلم، والخطب، وغير ذلك من مقامات الدعوة والترغيب والترهيب، فتنفر من البدع بالنصوص الشرعية العامة، لكن أن تكفر الشخص بعينه فهذا لا ينبغي أن تحكم عليه بكفر أو بتفسيق أو ابتداع حتى تستوفي شروطاً معينة، وهذا من خصائص القضاء الشرعي، ولا تنازع الأمر أهله.
وفي المنابر أو الدروس والخطب ونحوها من المحافل يتكلم عن الكفر أو البدعة بصفة عامة تنفيراً من الكفر والبدع، ويوصف الكفر بأنه كفر، والبدعة بأنها بدعة، ولا حرج على هذا الإطلاق.
لكن في مقام التأصيل والتقعيد والتنظير ومحاكمة الناس فليست المسألة عبثاً ولا هوى، وإنما ينبغي التحقق والتحري والتدقيق والتثبت، فمن هنا نقبل في الحقيقة هذه الكلمة التي قالها المودودي رحمه الله في كتابه: (نحن دعاة لا قضاة)، فالإنسان عليه أن يدعو، لكن القضاء الشرعي والحكم على الناس بأعيانهم هذه ليست وظيفة الدعاة، وهذه الأحكام يترتب عليها أمور عملية، فإذا حكمت عليه بالردة فيترتب عليه أنه يجب أن يقتل، ويفرق بينه وبين زوجته، وغير ذلك من الأحكام الشرعية المعروفة.
فيجب أن نفرق بين وظيفة الداعية وبين وظيفة القاضي الشرعي، وقد بايع النبي عليه السلام الصحابة على ألا ننازع الأمر أهله.
يقول شيخ الإسلام: إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها؛ وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية.
إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق يعني: لا تعارض بين العلماء الذين يقولون مثلاً: حكمي في الشخص الذي يقول: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض أنه كافر! كما قال أبو حنيفة: من قال: لا أعرف أربي في السماء أم في الأرض فقد كفر.
وقال: حكمي في هؤلاء أن يقتلوا وأن يلقوا يعني: لا يدفنوا لا مع المسلمين، ولا مع اليهود والنصارى، بل يلقون على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل الإسلام ولا أهل الكتاب أو كما قال، فهذا الكلام في كفر النوع.
أما كفر العين في الشخص نفسه فلا يحكم عليه بذلك حتى تستوفى الشروط وتنتفي الموانع.
يقول شيخ الإسلام: إنما نقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، الإطلاق أن تقول: من قال كذا فله مثلاً عذاب كذا، لكن تعيين أن هذا الشخص بعينه ملعون أو أنه كافر وأنه من أصحاب النار! هذا لا يجوز إلا بنص من وحي، أبداً حتى الكافر الموجود الآن كلينتون، أو بوش أو أي أحد من الكفار، فهذا لا تقول هو في النار؛ لأن الخواتيم مغيبة، والأعمال بالخواتيم، نعم هو في الدنيا تجري عليه أحكام الكفر، لكن لا تقل: هو بعينه من أهل النار؛ لأنك لا تدري بخاتمته، وهذا افتئات على حدود الله سبحانه وتعالى وحرماته، لكن تقول: إن مات على الكفر فهو في النار.
يقول شيخ الإسلام: لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار، وهي مسألة الوعيد، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، هذه مطلقة في الذي يأكل مال اليتيم، لكن لما تأتي تحاسب شخصاً باسمه: فلان أكل مال اليتيم، هل تستطيع أن تقول: إنه في النار؟ لا تستطيع أن تقول ذلك، لماذا؟ سيأتي الجواب.
كذلك سائر ما ورد من النصوص: من فعل كذا فله كذا مثلاً: (لعن الله الواشمة والمستوشمة) وغير ذلك، فإن هذه مطلقة عادة، وهي بمنزلة قول من قال من السلف: من قال: كذا فهو كذا، تماماً كما لو قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقد كفر.
هذا هو الحكم من حيث الإطلاق في كلام ابن تيمية، لكن الشخص المعين فقد يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة مثل هذا الشخص الذي قال هذا الفعل سواء كان كفراً أم دون الكفر، فيمكن أن يلغى حكم استحقاقه لهذا الوعيد؛ لأنه ربما يكون تاب: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:١٠].
فإذاً: الحكم باستحقاقه للوعيد قد يلغى بتوبة يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يطلع عليها إلا الله، فيمكن أن يلغى بحسنات ماحية، هو ارتكب هذه المعصية لكن في الجهة الأخرى عمل بعض الحسنات التي محت عنه هذا الوعيد، ويمكن أن يلغى هذا الوعيد بمصائب مكفرة يبتليه الله سبحانه وتعالى بمصائب تكفر عنه ما استحقه من الوعيد، ويمكن إن لم يكن هذا ولا هذا ولا ذاك أن يلتغي حكم الوعيد بشفاعة مقبولة يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أو تشفع فيه الملائكة أو يشفع فيه قريب له شهيد، أو يشفع فيه أحد من إخوانه المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة) تعرفون أنواع الشفاعة في الآخرة.
فيمكن أن يلتغي الوعيد بسبب شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن قال القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فيمكن شخص أسلم مثلاً في أمريكا أو كندا أو في أي مكان من الأرض، وأتى إلى بلاد المسلمين وهو يقول لك: لا توجد حاجة اسمها صلاة، الدين ليس فيه صلاة، لا يوجد في الدين شيء اسمه الصيام! يمكن مثلاً ينكر تحريم الخمر الذي هو معلوم من الدين بالضرورة لكن هنا توجد شبهة، فهذا القول بحد ذاته كفر أم ليس بكفر؟ كون شخص يقول: الخمر حلال، أو الفواحش حلال، أو السرقة حلال، أو ينكر الصلاة، أو يجحد الصيام، أو يجحد الحج، قطعاً هذا قوله كفر وتكذيب لما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكن هذا الرجل قد يكون صدر منه بسبب أنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في مكان بعيد عن أهل الإسلام، لا يعرف هذه الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة، فمثل هذا لا يكفر حتى ولو كان قوله كفراً، هو قوله كفر أم ليس بكفر؟ كفر لكن هل يكفر؟ لا ينبغي أبداً أن يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة على يد إمام عالم، وهو مقتنع بأنه عالم.
إمام عالم يملك الحجة يستطيع أن يدفع عنه جميع الشبهات حتى لا يبقى له ما يدفع الحق أبداً، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، يردد كلام بعض الجهلة الذين ينكرون السنة النبوية كلها أو بعضها أو أقساماً منها، فهو يردد ما قاله هؤلاء الضلال المبتدعون وهو لا يتعلم، رد ما قاله الرسول ولكنه مخدوع بتضليل أهل البدع، فربما يكون لم يسمع النصوص أو سمع ولم تثبت عنده في اعتقاده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً.
ويقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في نفس هذا الموضوع: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال: هي كفر قولاً مطلقاً كما دلت على ذلك الدلائل الشرعية، فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنتفي موانعه.
ومثاله: من قال: إن الخمر أو الربا حلال؛ لقرب عهده بالإسلام، أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وكما كان الصحابة يشكون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً في مناسبة أخرى: إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتحليل الزنا والخمر والميسر، ونكاح ذوات المحارم، هذا كله كفر، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب وكذا لا يكفر به جاحده كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يكفر بجحد شيء مما أنزل الله على رسوله إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول، ومقالات الجهمية هي من هذا النوع.
يعني: يقول: كلام الجهمية كفر، لكن الجمهية ليسوا كفاراً، وأغلب مقالاتهم هي من هذا النوع.
فلذلك وجب التفريق بين كفر النوع وكفر العين، وهذه هي وظيفة القاضي الشرعي أو العالم أو الإمام الذي يستطيع فعلاً إقامة الحجة ومحاسبة الناس والحكم تبعاً لذلك بكفره.
يقول: ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تبارك وتعالى عليه، ولما أنزل الله على رسوله، وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه: أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب