[ذم السلف للبدع والتحذير منها]
الأدلة على ذم البدعة والتحذير منها كثيرة متواترة سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فإن أكثر الأدلة الآمرة بطاعة الرسول صلى عليه وسلم مقرونة بطاعة الله سبحانه وتعالى.
أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي شخص أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، (فكل) صيغة عموم، وفي الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وهذا أيضاً صيغة عموم، فكل البدع باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة)، ثم يقول: لا، ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن! ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة عليه الصلاة والسلام.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة.
وقال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما يسعهم.
وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي.
وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة.
لماذا؟ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علّمه، ولأول كتاب قرأه.
فمن علامات السعادة والتوفيق أن الحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب، أن يكون ذلك ابتداء على عالم سني حتى يقتصر على الطريق السوي، ولا يضيع عمره في التجول بين الطوائف المختلفة، فإن من علامات السعادة: أنه منذ البداية وضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر بالتجول في الفرق الضالة.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١].
وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء -بدأ يتكلم في بدعته- فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف.
فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه لبلاء لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحادثك أو يعرض عليك بدعته، فلعله أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك لم تملك قلبك فإنه قد يتأثر بهذه البدع والضلالات خاصة، وإذا كان لديك لسان وجدل فليست البطولة أن تصغي إلى مبتدع ضال، بل البطولة ألا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة.
فهذا طاوس لم يسمع لهذا المبتدع، وقال: إن هذا القلب ضعيف، وما زال يقول: أي بني! اثبت، أي بني! اثبت حتى قام الرجل المعتزلي.
وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه فقال ابن سيرين: إما أن تقوم وإما أن أقوم.
وعن سلمان بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء لـ أيوب -هكذا كانوا يسمون أهل البدعة، ما كانوا يسمونهم بالعقلانيين ولا غير ذلك من المسميات الموجودة الآن، لكن كانوا يسمونهم أهل الأهواء قال - لـ أيوب السختياني: أكلمك بكلمة قال: لا، ولا نصف كلمة! وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً.
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم أو ينكسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، يعني: يرجع منها.
وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي داود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا فصف الناس، وجاء الثوري فقال الناس: جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فتجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء.
وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهو في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- قالوا: وأين هو في كتاب الله؟! قال: أما سمعتم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:١٥٢]؟! قالوا: يا أبا محمد! هذه لأصحاب العجل خاصة! قال: كلا، اتلوا ما بعدها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:١٥٢] أي: الكذابين المبتدعين، فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة.
وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
وعن سعيد قال: مرض سفيان الثوري فبكى في مرضه بكاءً شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟ قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه.
وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فكن في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً أي: حمداً لله الذي أماته! وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣].
وقال أيضاً: تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع! وعليكم بالعتيق، يعني: القديم.
وعنه قال: أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول.
وعن عمر قال: يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين.
وعنه قال: سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى.
وعن محمد بن مسلم قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة.
وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أخبئ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه -يعني: لا يمكن أن يصطفيكم بخير يكون قد حجبه عن الصحابة- فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل ناصحاً، فهم أصحاب النبي وخيرته من خلقه، أفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتم أنتم بما ابتدعتم في الدين.
وروي أن رجلاً قال لـ مالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في زيادة الخير؟! قال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وقال الأوزاعي: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم - أي: السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا الأقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، وقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم فحسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم.
وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعته ودعا الناس إليها: هذه البدعة التي تدعو إليها، هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لا يعلمه هؤلاء أعلمته أنت؟! قال الرجل: فإني أقول قد علموها، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا بها ولا يدعوا الناس إليها أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء