[مبادرة الصحابة إلى الاقتداء بأفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم]
وقال مجاهد: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت.
وبلغ أيضاً من حسن اقتدائهم به صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يفعلون ما يفعل ويتركون ما يترك دون يعلموا لذلك سبباً، ودون أن يسألوه عن علّته وحكمته؛ لأن المسارعة مزية من مزايا المحبة، فمن أحب أحداً أطاعه في كل ما يأمر به واقتدى به، وهذا قد يحدث في الخير وفي الشر كما ترون كثيراً من الناس يحبون بعض الفُسّاق من الممثلين أو غيرهم، فإذا غير أحدهم في هيئته بأي نوع من التغيير، تجد كل من يحبونه يقتدون به في هذا الأمر؛ لأن هذا يدل على أثر المحبة في هؤلاء الفسقة حتى لو فعلوا بأنفسهم ما فعلوا من تغيير الهيئات، بل حتى لو تشبهوا في فعلهم بالحشرات، كما يسمون بعض الفرق الحشرية البيكز والفوب! ومعنى الفوب: الكلب! والبيكز: الخنافس! فتجد من يقتدون بهم حتى في هذه التفاهات وهذه السخافات حباً في هؤلاء المفسدين في الأرض! فكذلك إذا أحب المؤمنون رسولهم صلى الله عليه وسلم -وهم أولى بذلك- فلا ينبغي لومهم ولا عذلهم ولا عتابهم على طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا أثر من آثار المحبة، فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تلقائياً يقتدي به حتى في الأمور التي لا تكون واجبة عليه، أو حتى في الأمور العادية التي ليست سُنّة مؤكدة.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتم من ذهب، ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: رماه- وقال: (إني لن ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتمهم) ولم يحتج الأمر إلى سؤال ولا أخذ أو ردّ، بل فعل ففعلوا، وترَكَ فتركوا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأى خاتماً من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه) أي: نزعه من يد الرجل ورماه في الأرض، (وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده؟ فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
فانظر إلى شدة الاقتداء والتورع، مع أن هذا الرجل قد أبيح له أن يبيعه وينتفع بثمنه، لكنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعه من يده وطرحه في الأرض أبى أن يأخذ شيئاً قد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه وهو يصلي) وقد كان يصلي في النعلين (فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك) وهم في الصلاة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يخلع نعليه (ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبريل أخبرني أن فيهما قَذَراً) فتأمل المبادرة في الاقتداء.
ولما قُدّم إليه لحم الضبّ فلم يأكله، توقف خالد بن الوليد عن الأكل وقال له: أحرام هو؟ قال: (لا، ولكني أعافه).
حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في قوم لا يعرفون الضبّ، فهو يعافه من ناحية الطبع؛ لأنه لم يتعوّد عليه.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام فاستدار إليه ودار معه المسلمون! ففي ذلك المجتمع كانت الأشياء تؤخذ بتلقائية؛ لأن هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام واجبنا طاعته والاقتداء به، وإتيان ما أتاه وترك ما تركه.