للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تبرك الصحابة رضي الله عنهم بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالهم له]

ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في حديث صلح الحديبية وفيه: (ثم إن عروة بن مسعود جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، يقول عروة بن مسعود: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره - أي: تسابقوا إلى طاعته والانقياد له-، وإن توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه -من شدة حرصهم على أن يأخذ كل منهم من هذا الماء الذي توضأ به ولمس جسده الشريف صلى الله عليه وسلم- وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له).

فهذه من آداب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنه كان قبل أن يسلم لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم قال بعدما أسلم: (فلم يكن أحد أحب إلي منه، وما ملأت عيني منه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، حتى لو قيل: صف النبي صلى الله عليه وسلم لما أطقت ذلك؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم) أي: لأنه كان لا يحد النظر إليه.

فهذه من الآداب التي ينبغي أن تسلك، خاصة مع الوالدين أو مع كبار السن أو مع العلماء، ولا ينبغي أن يثبت الابن عينه في عين أبيه أو شيخه أو كبار السن، فينبغي أن يغض الإنسان الطرف أمام من ينبغي توقيرهم، فهذه من الآداب الشرعية، كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم، فالويل لهؤلاء الأبناء العاقين الذين ينظر أحدهم إلى أبيه كأنه هو الأب وكأن أباه هو الابن، وكأنه هو الذي يؤدب أباه، فقد يثبت الولد عينه في عين أبيه يقصد بذلك الزجر والشدة على أبيه، وهذا من العقوق، فصحيح أنه لا يتكلم، ولا يقول: أفٍ، لكن قد يكون أشد من الأف مثل هذه النظرات الثاقبة.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ فقال له: أبشر.

فقال: قد أكثرت علي من (أبشر)) وعادة الأعراب أنهم لا يحسنون آداب الحوار، فهذا الأعرابي بشره النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله كان طلب منه شيئاً فوعده بأنه سوف يملكه هذا الشيء، أو غير ذلك، فقال له (أبشر)، فرد عليه الأعرابي وقال: قد أكثرت علي من (أبشر).

قال: (فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: رد البشرى! فاقبلا أنتما.

قالا: قبلنا) فانظر كيف قالا: (قبلنا) دون أن يعرفا ما هي هذه البشرى! قال: (ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه، ومج فيه -يعني: أخرج الماء من فمه بعدما مضمض- ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا.

فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة -وكانت ترقب هذا الموقف من وراء الستر- أن: أفضلا لأمكما -أي: لا تنسيا أمكما أم المؤمنين، وأبقيا لها ولا تأخذاه كله- فأفضلا لها منه طائفة) رواه البخاري.