[أقوال العلماء في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان]
قال ابن قدامة: أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء يستره ففيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: لا يجوز حتى في البنيان.
يعني: لا يستدبر ولا يستقبل القبلة عند قضاء الحاجة، سواء في الفضاء أو البنيان، وهذه الرواية للإمام أحمد، وهو قول الثوري وأبي حنيفة؛ لعموم الأحاديث في النهي؛ لأن أحاديث النهي لم تخصص البنيان من الفضاء.
أما الرواية الثانية: فهي أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان، وروي ذلك عن العباس وابن عمر رضي الله عنهم وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر.
يقول ابن قدامة: والصحيح أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان؛ لحديث جابر رضي الله عنه.
وقد روت عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوماً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوقد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي القبلة) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وحسنه النووي، لكن أشار البخاري رحمه الله تعالى في تاريخه في ترجمة خالد بن أبي الصلت إلى أن في هذا الحديث علة.
يقول ابن قدامة: رواه أصحاب السنن وأكثر أصحاب المسانيد منهم: أبو داود الطيالسي رواه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك بن مالك عن عائشة، قال أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن.
وقال أحمد: وعراك لم يسمع من عائشة فلذلك سموه مرسلاً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أوقد فعلوها؟) استفهام لأن هذا النوع من الاستفهام يقتضي الإقرار به فضيحة، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.
قوله: (استقبلوا بمقعدتي القبلة) المقعدة: بفتح الميم هي الموضع الذي يقعد عليه الإنسان لقضاء الحاجة، يعني: حولوا هذا الموضع إلى اتجاه القبلة، والحديث فيه علتان.
يقول ابن قدامة: وهذا كله في البنيان، وهو خاص يقدم على العام.
والعام هو حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره)، والخاص هو حديث عائشة إذا صح، فهو يدل على أن ذلك إنما يكون في البنيان، فالخاص يقدم على العام.
وعن مروان الأصفر قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نهي عن هذا؟ قال:، بلى، إنما نهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس) رواه أبو داود والدارقطني والحاكم وصححه على شرط البخاري.
يقول ابن قدامة: وهذا الفعل من ابن عمر تفسير لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم العام في حديث أبي أيوب: (إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا أو غربوا) ففعله يفسر أن ذلك إنما يكون في البنيان، فإن كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
يقول: وفيه جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه.
لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند العجز عن الجمع بين النصوص، ولأن النسخ فيه إبطال لأحد الدليلين في المسألة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، فهذا هو الذي ينبغي أن يسلك عند التعارض، فالجمع متى ما أمكن أولى.
وعن الإمام أحمد أنه قال: يجوز استدبار الكعبة في البنيان والفضاء جميعاً؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة رضي الله عنها فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) متفق عليه.
لذلك صدر المسألة ابن قدامة بالقدر المتفق عليه بين أكثر أهل العلم فقال: لا يجوز استقبال القبلة في الفضاء لقضاء الحاجة في قول أكثر أهل العلم، ثم تعرض بعد ذلك للاستدبار على التفصيل الذي ذكرناه.