ومن تلك الإجراءات أيضاً تحريم مس الأجنبية ومصافحتها، فإن الإسلام يطارد الحرام أنى وجد، ويترقب المنكر حيثما كان ليقضي عليه، فلمس المرأة باليد يحرك كوامن النفس ويفتح أبواب الفساد ويسهل مهمة الشيطان، والحواس التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الإنسان خمس، فكل شيء من البدن مخلوق لأجل أداء وظيفة محددة، العين للنظر، والأنف للشم، والبشرة للمس، فهذه الوظيفة لا ينكرها عاقل، فمس المرأة الأجنبية مما يفتح ذريعة الفساد، ولذلك توعد الرسول صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك بعقوبة شديدة، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، وإذا كان هذا في مجرد المس فقال:(أن يمس) حتى لو كان بغير شهوة فما بالك بما فوق هذا النوع من المس؟! وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)، فالمقصود بالحديث أن من الناس من يكون إتيانه لهذا الأمر المحرم إتياناً حقيقياً بفعل الفاحشة الكبرى، ومنها ما يكون -كما قال الإمام النووي - مجازياً دون ذلك، لكن أطلق عليه هذا اللفظ تنفيراً منه، (فالعينان زناهما النظر) بأن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وما أوفر حظ الذين يجلسون أمام الفيديو والتلفاز وهذه الأشياء ينظرون إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، والنظر للأجنبية في حد ذاته بشهوة لا شك أنه داخل في زنا العين.
الشاهد في الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(واليد زناها البطش)، والبطش هو المس باليد، بأن يمس امرأة أجنبية بيده، أما من تساهل في مصافحة النساء واحتج بطهارة قلبه فيقول: أنا قلبي طاهر، ونيتي سليمة فنقول: الإسلام لم يكل الناس إلى نواياهم الحسنة ولا إلى ضمائرهم، وإنما شرع من الإجراءات الصارمة ما يحسم باب الفتنة حتى لا يصير الأمر محتملاً، فلذلك لا تقبل دعوى طهارة القلب وسلامة النية، مع أن الظاهر يخالف ذلك، لا تقبل دعوى من ادعى أن قلبه سليم وقلبه طاهر ويدعي أنه لا يتأثر بذلك، فمن فعل مثل هذا فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وأقوى دليل على كذبه في هذه الدعوى أن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله وأرعاهم لحدود الله يقول وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم:(لا أمس أيدي النساء) ويقول (إني لا أصافح النساء)، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم، كيف وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب:٢١]؟! وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:(وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها.
فلا ينبغي الالتفات بعد ذلك إلى بعض الناس الذين يتساهلون في هذا الباب انصياعاً أمام الضغوط الاجتماعية الواقعة من الناس، لأن بعض الناس يتساهل جداً في هذا الأمر ويحاول أن يتنصل من هذا الحكم الشرعي بحجج واهية ساقطة لا تحتاج إلى أن نبذل جهداً ووقتاً في إسقاطها، وبعض الناس قد يتهاونون بهذا الحكم بزعم أنهم يستحيون من إحراج من تمد يدها للمصافحة، غافلين عن أن هذا ليس حياء؛ لأن الحياء خير كله، والذي يأتي بالشر لا يمكن أن يكون خيراً، فإنه لا يأتي الخير إلا بالخير، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الشرعي الذي يمنع من الحرام، فالحياء الشرعي في هذا الموضع هو حياؤك من الله، أن تستحي من الله أن تمد يدك إلى امرأة أجنبية فتصافحها، أما إذا دفعك حياؤك من الناس أو من هذه المرأة إلى أن تمد يدك وتصافحها فإنك استحييت من الخلق وضيعت الحياء منه تبارك وتعالى، فهذا يسمى عجزاً وليس حياءً، هذا عجز وتهاون وخذلان وليس حياءً، يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله سبحانه وتعالى:{وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}[الأحزاب:٥٣]، فهذا هو نهاية الحياء.
يعني: كان صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فنهاية الحياء أن لا يستحي الإنسان من الحق، فهذا نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإن من غلب عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس؛ فإن الله أحق أن يستحيا منه.