[الاحتجاج بالخوف من قلة الأرزاق لتسويغ الدعوة إلى تحديد النسل]
إن أول ما يتبادر إلى أذهان الناس إذا أثيرت قضية تحديد النسل هو موضوع الواقع الذي نعيشه الآن، وكيفية توفير الغذاء للناس مع ضيق الموارد وكثرة الزحام، والعجز عن الزواج، ومشكلات المواصلات، وقلة المال، إلى آخر هذه الأشياء التي يخوّف الناس بها، ومن ثم نقول: إن هذه القضية لها ارتباط وثيق بالعقيدة، سواء في الألوهية أو في الربوبية على حدٍ سواء.
وهم يحاولون أن يبرزوا الناس الذين يفتون لهم بما يريدون، والحق أن هؤلاء أناس سفهاء، ليس عندهم عقل، ولا يحسنون الأمور، وهذا نوع من الهوس حيث ينتقدون كلام من يعارضهم، ويأتون به في صور مضحكة تثير سخرية الناس، بحيث لا يبالون بمثل هذا الكلام، لكن ينبغي ألا نتأثر أبداً بمثل هذه الأساليب التي يصدّ بها الجهال عن دين الله عز وجل.
إذا تدبرنا القرآن الكريم نجد أن كثيراً من السور تهتم بقضية الرزق، وتربط بينه وبين السلوك البشري، حيث يزيد عدد الآيات التي تتناول قضية الرزق في القرآن المجيد على مائتي آية، وكلّها تؤكد حقائق ثابتة مؤدّاها: أن الرزق من عند الله تعالى وحده، وهو مالك أسبابه لا شريك له في ذلك، وأن هذا الرزق مضمون عند الله عز وجل، لا يحتاج إلى شركات تأمين كاذبة مرابية ظالمة! ولا يحتاج لأي شيءٍ سوى أن يستجلب هذا الرزق من عند الله بطاعة الله تبارك وتعالى، والإنسان عليه فقط أن يكتسب، أما الرزق فأمره إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وقضية الرزق هي قضية الصراع الطويل بين الأحياء، غير أن الله عز وجل لم يترك الإنسان ليهلك في هذا الصراع المرير، بل أنزل تبارك وتعالى تعاليم تقوّم سلوك الإنسان في مسألة الرزق، فمن مظاهر ذلك أن الله عز وجل أوجب على المسلمين الإنفاق، وفرض عليهم الزكاة، وأمرهم بالتعاون والتراحم والتكافل، مبيناً لهم أن المال مال الله، وأنهم مستخلفون فيه، وكذلك حرم الله تبارك وتعالى على الناس السلوك المالي المنحرف، كالربا، والكسب الحرام، والغّش، والاستغلال إلخ.
وبين الله عز وجل -مع هذا- أن الأولاد مصدر إضافي منفصل للرزق، فيجب على الإنسان أن يكون عنده يقين، فربما أن الرزق الذي يأتيك لا يأتيك لأجلك أنت؛ لأن ذنوبك ربما تحول دون وصول الرزق إليك، لكن الرزق يأتي لأولادك الضعفاء كما قال عليه الصلاة والسلام: (أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)، فالرزق يأتي لهؤلاء، وربما تكون ذنوبك قد حالت دون إتيان رزقك إليك، كما جاء في الأثر: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه).
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:٣١]، ((خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) هذا في الفقر المتوقع، ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)) وهذا ما كان يفعله أهل الجاهلية، حيث كانوا يقتلون الأولاد خوف الفقر في المستقبل، ولما كان الفقر متوقعاً في المستقبل قال تعالى: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فبدء برزق الغائبين قبل رزق الحاضرين؛ لأن رزقهم مضمون، وأما في الفقر الحاضر فقال تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:١٥١] فهذا الفقر واقع وليس متوقعاً، ((نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) فالسياق واضح تماماً في أن الإنسان لا يقتل ولده أبداً خشية أن ينفق ما معه، وإن من كبائر الذنوب: منع الحمل أو تقليل النسل بسبب الخوف من الفقر، أو الخوف من نقصان الرزق، فقد بطلت هذه المزاعم بهذه الآية: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) وبطلت دعوى أصحاب فكرة تقليل النسل الذين يزعمون أنّ إنجاب الأولاد يضيف عبئاً اقتصادياً على العائلة، وقد تصح دعواهم إذا كان الأبوان هما اللذان يخلقان الرزق! أو كان الأب هو الذي يخلق الرزق بحكم أنه هو عائل الأسرة! فإنه إذا كثر عليه الأولاد الذين يخلق لهم الرزق سوف يكون ذلك عبئاً شديداً عليه؛ لأنه بشر وطاقته محدودة!! لكن إذا كان الأب والأم والأولاد وكل من في الأرض فقراء إلى الله عز وجل، والله هو الذي يرزقهم، وهو الذي يضمن لهم ذلك بقوله: ((نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ)) فكما انفرد بالخلق انفرد بالرزق، وكما أنه لا يخلق إلا الله فإنه لا يرزق إلا الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣] فهذا وجه ارتباط قضية الرزق بالعقيدة، أي: كما تعتقد أنه لا يخلق إلا الله فتعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له في ذلك أبداً.
وضمن الله تبارك وتعالى الرزق لكل المخلوقات، يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] من الذي يعطينا المطر؟ من الذي ينبت لنا من الأرض؟ من الذي يرزقنا الماء؟ يقولون: مصر هبة النيل! هذا شرك، وهل النيل يهب؟ بل النيل نفسه هبة من الله تبارك وتعالى، وهو في نفسه نعمة، فكيف نعبد النعمة ونترك وهّابها وهو الله عز وجل؟! فأمر الرزق مضمون بلا ريب، وأي شك في هذا فهو خلل في العقيدة، يقول عز وجل: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:٦٠] ولو ذهبنا نستقصي ما استطعنا عليه من أنواع الأحياء وتفاصيل ضمان الرزق لها فسوف نعجب عجباً شديداً جداً، أنت نفسك أيها الإنسان! من ضمن لك رزقك وأنت في بطن أمك؟! وكذلك من الذي يرزق النملة في جحرها؟! ومن الذي جعل طريقة التعايش أو التطفل أو التكافل بين الحيوانات والكائنات الحية؟! هناك قصص كثيرة جداً إذا أردنا أن نذكرها بالتفصيل فإننا سنخرج عن الموضوع، لكن نكتفي بقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:٦٠] فإذا كان يرزق الدابة فكيف بمن كرّمه؟! {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠]، ويقول عز وجل {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:٥٢] أي: أنت غير مسئول عن رزقهم ولا عن عملهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٥٢].
ويقول عز وجل: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:٢٧]، ويقول تبارك وتعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٤]، فكل إنسان له رزق ونصيب مقدر من الله تبارك وتعالى، لكن الغربيين ونظراءهم من الكفار لا يوقنون بهذه المعاني ولن يستمعوا لها، ولن يحسّوا بمعناها، فلذلك تنحصر أفكارهم في الجوانب المادية المحسوسة، ومثل هذه العقائد لا ينعم بها إلا من نوّر الله قلبه بنور الوحي والتوكل عليه عز وجل، فحتى الأنفاس التي تتنفسها قد كتب الله لك عددها، فلا تنزل إلى الدنيا إلا ولك عدد محدد من الأنفاس سواء كان شهيقاً أم زفيراً، وسواء كان جزءاً أو جزيئاً من الأوكسجين أو الذرات التي سوف تدخل جسمك وتخرج منه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:٨٤]، فالحقيقة أن الإنسان أول ما ينزل الأرض يبدأ العد التنازلي في هذا العدد الذي سطّره القلم منذ الأزل.
وفي الحديث: (ثم يأتيه الملك، ويؤمر بكتب أربع كلمات)، ومن هذه الكلمات التي تُكتب قبل أن تُخلق أنت: الرزق.
وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن روح القُدُس نفث في رَوْعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) يعني: هونوا على أنفسكم، ولا تشتطوا في طلب الرزق، وقوله: (فإن روح القدس نفث في روعي): وهذه طريقة من طُرق الوحي، (أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) أي: لا يمكن أن يموت الإنسان قبل أن يأخذ رزقه الذي كتب الله له تبارك وتعالى، بل يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله) فتخيل هذين الأمرين: كما أن عندك يقين أن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر ولا يُطرد ولا يؤجل، فكذلك إذا حضر رزقك فلا يمكن أبداً أن يحول أحد بينك وبين هذا الرزق، وفي الحديث: (المعونة تأتي على قدر المئونة)، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، ألا هلك المرتابون الذين يُشكّكون في رزق الله تبارك وتعالى، (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي: تخرج في الصباح فارغة المعدة، (وتروح بطاناً) أي: حينما تعود قد امتلأت بالطعام والرزق، فمن الذي رزق هذه الطيور الضعيفة الهزيلة التي ليس لها عقل ولا إمكانية؟! من ذا الذي يرزقها إلا الله تبارك وتعالى.